استشراف المستقبل الاستباق أو التوقع للدكتور حسام حاضري
عندما نتناول استشراف المستقبل بالبحث فإننا نتكلم عن مظلة جامعة ينضوي تحت لوائها سائر العلوم، فهناك الاستشراف السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والتقني، والإداري، والتعليمي، ومن الجدير بالذكر أن هذه العلوم جميعها على اختلافها وتنوعها تنشد هدفاً واحداً وهو الاستعداد للمستقبل، والشعور الاستباقي في توقع حدث ما وديناميكية التعامل معه، وهو ما يطلق عليه بالمصطلح العلمي (التوقع أو الاستباق Anticipation).
يعتبر مفهوم التوقع المنبع الذهبي الذي تتفرع منه كافة الجهود المبذولة للغوص في أعماق المستقبل واستكشاف آفاقه وصولاً إلى استثماره على النحو الأمثل، فهو سلوك استباقي يمثل القدرة على تخيل زمان المستقبل من خلال بناء تتابع من الأفعال والأحداث الممكنة، وبالتالي يوفر المزيد من الحرية في اتخاذ القرارات استناداً إلى العديد من المعطيات والمعلومات التي تفيد في تقريب الصورة أكثر أثناء عملية اتخاذ القرار.
وحتى يغدو العمل احترافياً لابدَّ من اعتماد هذا المفهوم كطريقة للتعلم ومنهجٍ قائمٍ بذاته (Anticipatory action learning “AAL”) حيث يمكن من خلال هذه الطريقة تصميم أسلوب مميز في استكشاف آفاق المستقبل عبر منهج الاستقصاء المنظم للوصول إلى تحولات إيجابية أملاً في تحقيق المستقبل الذي نصبو إليه جميعاً.
ولعلَّ أهم الميزات التي يمكن اكتسابها من طريقة التعلم بالممارسة الاستباقية (AAL) والتي تجعلها متفردة ومختلفة عما سواها من المداخل الأخرى – سواءً الممارسات التقليدية للتعلم بالفعل والقائمة على الحاضر، أو الممارسات الأخرى في مجال بحوث المستقبل – أنها أقل اعتماداً على توقعات الخبراء، وأكثر انسجاماً مع عمليات التعلم التشاركية (منهج التحري والاستقصاء)، وأنها تمكن الباحثين من استدعاء سيناريوهات المستقبل بحرية تامة وبشكل تدريجي أثناء عملية الاستقصاء.
وإذا كان المستقبل الذي نبحث عنه له أبعادٌ متنوعة، بما فيها استكشاف أنواعه الثلاثة: الممكن والمحتمل والمفضل، فإننا ومن خلال الاستقصاء المستمر سننتبه مبكراً لأية سيناريوهات مستقبلية غير مرغوب فيها، ونبحث على الفور عن بدائل أكثر إيجابية، الأمر الذي يمكننا من خلق مناطق من التشكك واللايقين والتي تمثل مورداً خصباً لتحفيز المشاركين على الاستعانة بمنهج الاستقصاء، لأن التعلم عن طريق السلوك الاستباقي يتوسط الحد الفاصل ما بين محتوى المستقبل، وعملية استكشاف المستقبل رغم جدلية العلاقة بينهما.
وأما الرسالة التي ينبغي الوصول إليها أخيراً فهي أن الاستباق والتكيف يزيدان من فرص النجاح والتميز ويقيان من الانهيار والتلاشي، وأن الأفكار التي لا تستطيع اللحاق بالوقت سوف تنتهي بمرور الوقت، ويظل الإنسان ناجحاً مادام يتعلم، فإذا اعتقد أنه قد علم فقد حكم على نفسه بالفشل! فكم من إمبراطوريات اقتصادية عملاقة انهارت واندثرت بعد أن سادت فترةً من الزمن، وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر شركة نوكيا للهواتف والتي مازلت أتذكر كلمة رئيسها التنفيذي “ستيف بلمر” وهو يتكلم بنبرة ممزوجة بدموع الأسى بعد استحواذ شركة مايكروسوفت عليها: (نحن لم نفعل أي شيء خاطئ، لكن بطريقة ما خسرنا)، فقد كانت هذه الشركة عملاقة ولكن غاب عنها التطور والتكيف والتغيير ففقدت فرصتها في المنافسة بل في البقاء على قيد الحياة.