لذا فإن علم دراسة المستقبل أو استشرافه سيساعد كثيرا في رسم صورة بعيدة المدى لمستقبل الأفراد والدول والحكومات في مختلف دول العالم خلال المرحلة المستقبلية القادمة من القرن الحادي والعشرين..
تعد الدراسات الاستشرافية والمستقبلية من أهم المجالات العلمية والأكاديمية المطلوب العناية بها والتركيز عليها والسعي لدعمها خلال الفترة الزمنية القائمة والقادمة، حيث تكمن أهمية هذا النوع من الدراسات وبصورة مختصرة: في أنها تضع خريطة طريق مستقبلية لما يمكن أن نواجهه في المستقبل، وكيف يمكن أن نحد من آثاره السلبية علينا، وكيف يمكن أن نستفيد من الفرص المتاحة فيه. نعم، قد لا يمكننا تغيير المستقبل كما نأمل أو نطمح، ولكن بكل تأكيد يمكننا التأثير فيه إلى الأفضل.
وكما يقول عالم المستقبليات الشهير إدوارد كورنيش وهو محرر مجلة المستقبل الأميركية ورئيس جمعية المستقبل العالمية “نحن مسافرون باستمرار في رحلة استكشاف نحو المستقبل، ولكننا لسنا سياحا يرافقنا دليل يستطيع أن يخبرنا تماما ماذا سنصادف أمامنا، ليبقينا مرتاحين وبأمان، بل على العكس من ذلك، فنحن مستكشفون في منطقة مجهولة وخطرة لم يسبقنا إليها أحد أبدا من قبل”.
إذًا صناعة المستقبل أشبه بقيادة سيارة تسير بسرعة عالية على طريق سريع، والسؤال المطروح هنا هو: هل نستطيع أن نقود تلك السيارة دون أن ننظر إلى الأمام؟ بالطبع سيكون الجواب الفطري والمنطقي على ذلك السؤال: لا. وهنا نسأل السؤال التكميلي الآخر وهو: لماذا لا نستطيع أن نقود تلك السيارة بسرعة عالية على طريق سريع دون أن ننظر إلى الأمام؟ بالطبع فإن الجواب البديهي الآخر لذلك السؤال سيتمحور حول اتجاهين، أولهما إشكالية الزمان وإشكالية المكان، فكيف ذلك؟
الزمان هنا يفرض علينا أن نقود تلك السيارة بسرعة عالية جدا، حيث بات من الضروري أن نواكب التطور العالمي السريع في مختلف مجريات الحياة. وبمعنى آخر، لقد أصبح من الضروري أن نجاري سرعة المتغيرات والمتحوِّلات الإقليمية منها والدولية في مختلف نواحي الحياة الاقتصادية منها والسياسية والثقافية…إلخ، فتوقفنا لفترة زمنية بسيطة سيعني أن نتخلف عن الآخرين لسنوات طويلة في تلك النواحي والأصعدة.
أما إشكالية المكان، فتكمن في العقبات والعوائق والتحديات الكثيرة التي يمكن أن نصادفها في ذلك الطريق السريع ونحن نقود بتلك السرعة العالية، بينما يتحتم علينا أن نراعي الضوابط القانونية والإنسانية والأخلاقية، وأن نحمي نفسنا من الأخطار التي يمكن أن تصادفنا في ذلك الطريق بشكل مفاجئ وغير محسوب، وليس ذلك فقط، بل تكمن المشكلة الأكبر في ضرورة أن نراعي سلامة الآخرين ومن يمكن أن يستخدم ذلك الطريق من الأفراد والسيارات الأخرى، وهنا تكمن المشكلة الأكبر في قيادة تلك السيارة، أو المستقبل إذا ما افترضنا أنه أشبه بقيادتها، إذًا فما هو المطلوب من قائد تلك السيارة؟
بالطبع فإن السائق الافتراضي سيختلف هنا من مركبة إلى أخرى، ومن قائد إلى آخر؛ أي من مركز قيادة وقرار إلى آخر، كل بحسب الموقع الذي يفترض أن يقوده ويخطط لمستقبله، فالحاكم هو القائد والمخطط لدولته ووطنه وشعبه، والقائد في المؤسسة الحكومية أو الأهلية، والمخطط المستشار المؤتمن على صناعة القرار في كل جهة وموقع ومكان. وبمعنى أشمل، كل من يقع من أفراد المجتمع تحت مسمى قائد أو راعٍ أو مسؤول سيتحتم عليه أن يقود تلك السيارة، بسرعة عالية كي لا يتقهقر أو يتخلف عن ركب الآخرين، ويتحتم عليه في نفس الوقت أن يصل إلى نهاية الطريق في الوقت المحدد، مع ضمان سلامة ركابه ومستخدمي الطريق من المارة والسيارات الأخرى.
وهنا تكمن الإشكالية في صناعة المستقبل واستشرافه والتوقع له، فما هو الحل إذًا؟ ونحن هنا بالطبع لا نملك المجال للتفصيل الدقيق لمنهجية صناعة المستقبل والتخطيط له، لذا فإن طرحنا هنا سيكون مجرد مدخل نظري عام لعلم بات من الضرورة الملحة أن يدخل في مناهج التعليم المدرسية والجامعية، فيدرس للطلبة والقياديين وصناع القرار ومن ستضع فيهم الدول والحكومات والمؤسسات العامة والخاصة الثقة والمسؤولية القيادية كل في مجال تخصصه وعمله.
وفي هذا السياق يقول الأستاذ إدوارد كورنيش، حول مستقبل هذا العلم، وضرورته الملحة لبناء وتطور الأفراد والدول “إنه في العقود القليلة الأخيرة تطور الاستقراء ليصبح مجموعة متكاملة من الآليات والمعارف، توضح كلها ضمن مصطلحات مثل “الاستشراف وعلم المستقبليات ودراسات المستقبل”…إلخ، ونتيجة لجهد العديد من الرواد الخلاقين في هذا المجال، أصبحت هذه الآليات والمعارف تستخدم بشكل منتظم ـ من قبل الشركات والوكالات الحكومية والمجموعات الفكرية ـ ومن المستقبليين المحترفين في العالم، وذلك بهدف توقع أنواع مختلفة لا تنتهي من الإشكاليات والمعضلات… فهدف الاستشراف ليس التكهن بأحداث المستقبل، ولكن العمل لجعل هذا المستقبل أفضل، ولدينا فرصة عظيمة لتحسين مستقبلنا، وكذلك لتجنب العديد من المعضلات التي قد تعترضنا، إذا ما كنا مستعدين للتطلع للأمام.
أغلب دول العالم المتحضر اليوم، تفضل التطلع للأمام؛ أي المستقبل البعيد، بل والتخطيط لمستقبلها من خلال التحضير له مسبقا، لا انتظار فرضه عليها من خلال العديد من الاحتمالات والظروف والأمر الواقع، كما أن القيادات الواعية والأمينة على مستقبل أبنائها، تدرك تمام الإدراك مسؤولياتها الجسام تجاه الجيل القادم مع عدم إهمال دورها في تحقيق وتوفير التزاماتها تجاه شعوب اليوم، وهو أمر صعب للغاية إذا لم يتم التخطيط له بشكل دقيق وسريع وصحيح، وهو ما نحاول التنبيه إليه من خلال إمكانية علم المستقبليات وقدرته على القيام بذلك.
لحسن الحظ فإن اهتمامات الأجيال الحاضرة والمستقبلية تتلاقى في معظم الأحيان، ولهذا يقترح ـ الأستاذ وندل بل، عالم الاجتماع في جامعة يال ـ أن ننظر إلى الأعمال ذات الفائدة المزدوجة، والتي تغني في نفس الوقت أجيال الحاضر والمستقبل، كالبحوث والتطور التكنولوجي والمنح الدراسية. كما أنه بات من الضرورة الملحة التركيز على التفكير في مستقبل توفير الأساسيات الحياتية اليومية، والتي لا يمكن الاستغناء عنها في الحاضر أو المستقبل، وهي بالتالي أحد واجبات الدولة تجاه مواطنيها، كتوفير الغذاء بشكل صحي وسليم، وتحقيق التعليم للجميع في أي مكان وزمان، وتوفير أقصى ضروريات المحافظة على عقل وجسم الفرد.
لذا فإن علم دراسة المستقبل أو استشرافه سيساعد كثيرا في رسم صورة بعيدة المدى لمستقبل الأفراد والدول والحكومات في مختلف دول العالم خلال المرحلة المستقبلية القادمة من القرن الحادي والعشرين، بل نتوقع أن ذلك سيسهم في التخطيط لاحتواء بعض الأزمات والمعضلات المحتملة التي يمكن أن نصادفها في المستقبل القريب والبعيد، فالقدرة والذكاء على إدارة الأزمات واحتوائها لا يكمن في السيطرة عليها بعد وقوعها أو أثناء ذلك، بل يكمن في القدرة على توقعها واستشرافها قبل وقوعها، وفي المهارة على استنباط الحلول ورسم السيناريوهات لاحتوائها وإدارتها قبل حدوثها بوقت كافٍ، ورسم خريطة ذهنية مستقبلية لكثير من الاحتمالات غير المتوقعة لها.
على ضوء ذلك بات التخطيط لصناعة المستقبل مهمَّة ملحَّة للجميع، بل ضرورية للغاية لبناء الدولة وتطورها وتنميتها المستقبلية في مختلف مجالات الحياة وفروعها، لذا فإنه من السذاجة أن ننتظر المستقبل ليفرض نفسه علينا بحكم الواقع، أو يفرضه الآخرون علينا بالقوة، كما يعيش ذلك الكثير من دول العالم اليوم، والتي نشاهدها تتخبط في طريق المستقبل، بل وترزح تحت شبح الحيرة والاستغراب والخوف، ما أدى بها إلى التخلف والتقوقع والتخبط في كثير من مخططاتها ومشاريعها التنموية والمستقبلية، بل يفترض منا أن نتحرك بسرعة ودقة عالية في قيادة مستقبلنا، وإلا فإن الاصطدام بما لا نتوقعه سيكون أمرا حتميا لم نحسب له أي حساب في ذلك الطريق السريع والمليء بالمخاطر والمفاجآت.
محمد بن سعيد الفطيسي*
*باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
رئيس تحرير مجلة السياسي – المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية