حيث إن كاتب هذه السطور يعمل أساسا بالتدريس وحيث إن تخصصه هو هندسة وعلوم الحاسب وحيث إن هناك تغييرات كبيرة تحدث فى تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى هذه الأيام فإن موضوع هذا المقال قد آن أوانه. أثناء كتابة هذا المقال أضع أمامى التعليم الجامعى لأن هذا ما أعمل به لكن لا يمنع أن الكثير من الأفكار التى سنتناولها تصلح أيضا للتعليم المدرسى، أيضا أتحدث عن العلوم الطبيعية والهندسية فى هذا المقال، بعض ما سنقوله ينسحب على العلوم الإنسانية لكنى أترك الكلام باستفاضة عن تلك العلوم لأهلها فأهل مكة أدرى بشعابها. الأستاذ يتحرك فى مثلث، الضلع الأول هو المحتوى العلمى الذى يريد أن يعطيه للطلبة، الضلع الثانى هو طريقة التدريس التى سيتبعها الأستاذ كى يعطى المحتوى بأكبر كفاءة ممكنة، أما الضلع الثالث فهى الأدوات التى يستخدمها الأستاذ فى مهمته.
فى هذا المقال سنعطى نبذة عن كل ضلع من مثلث التعليم هذا واضعين فى الاعتبار التقدم التكنولوجى الحالى. المحتوى العلمى هو المادة العلمية التى تريد إعطاءها للطالب فى مدة زمنية معينة هى الفصل الدراسى، لا نريد تكرار عبارات معلبة مثل الكيف أهم من الكم إلخ لكن هناك عدة اعتبارات يجب أن نأخذها فى الاعتبار فى أيامنا هذه، أولا عند تدريس مادة علمية يجب تنمية التفكير النقدى عند الطالب، فمثلا عندما نعطى الطالب طريقة معينة لحل مسألة لا يجب أن نعطى خطوات يسير عليها الطالب «عميانى» بل يجب شرح أسباب كون هذه الطريقة هى أفضل طريقة وهل هناك طرق أخرى وهل هناك أحوال لا تنفع فيها تلك الطريقة إلخ، هذا يستغرق وقتا ولكنه ليس وقتا ضائعا، تقليل المادة العلمية مع زيادة جرعة التفكير النقدى هو ما نريده من الجيل القادم.
ثانيا يجب أن يعلم الطالب أن العلم يتقدم وهذا معناه أن بعض ما يتعلمه الآن قد يصبح عديم الفائدة فى المستقبل القريب أو البعيد لذلك يجب تعليمه كيف يرصد تطور العلم وكيف يتعلم الجديد، لاحظ أننا نتكلم عن مهارتين هنا: مهارة التعلم ومهارة النسيان. ثالثا يجب ترك جزء صغير من المنهج يتعلمه الطالب بنفسه ثم يتم امتحانه فيه وهى نقطة مرتبطة بالنقطة السابقة وهى مهارة التعلم الذاتى، طبعا فى هذه المرحلة ينبغى أن يعطى الأستاذ توجيهاته للطالب حتى أثناء التعلم الذاتى. هذا يقودنا إلى طريقة التدريس. عندما نتحدث عن طريقة التدريس فإننا نتحدث عن الأستاذ نفسه: شخصيته ومهارته وعلمه، هذا موضوع كُتبت فيه كتب لكننا سنكتفى هنا ببعض النقاط العامة، أولا فكرة «الراجل الطيب» (والتى تكلمنا عنها فى مقال سابق منذ عدة سنوات) لا تعنى أن الأستاذ ماهر فى تدريسه، إعطاء الطلبة درجات لا يستحقونها أو التساهل فى التصحيح بحجة «أن الطلبة وأهلهم غلابة» لا تصلح إلا فى حالة أن النظام التعليمى مدَمَر وأنه حيث إن الطالب لن يتعلم شيئا فلنعطه الشهادة ونترك الدنيا تعلمه، لكن عندما يكون النظام التعليم جيدا فإن فكرة «الراجل الطبيب» تكون مدمرة لجيل كامل. ثانيا هناك نقطة يغفل عنها الكثير من الناس أو يستخفون بها وهى الفكاهة فى قاعة المحاضرات، الفكاهة تساعد على تقليل التوتر أثناء إعطاء المادة العلمية خاصة لو كانت صعبة وتقوى العلاقة بين الأستاذ وطلبته.
ثالثا الأستاذ يجب أن يكون على استعداد للاعتراف بالخطأ إذا قام أحد الطلبة بتصحيح معلومة أو إبداء رأى أفضل، الطلبة الآن تستطيع بسهولة الوصول إلى المعلومة وشرحها وتاريخها إلخ وبالتالى هناك مصادر عدة يتفاعل معها الأستاذ، وقد يطلب الأستاذ من الطلبة البحث عن معلومة معينة ويقول صراحة إنه هو شخصيا لا يعرفها وسيتعلمها معهم، وهى رسالة للطلبة أنه لا أحد فوق التعلم. نأتى إلى الأدوات التى يستخدمها الأستاذ، فى الماضى كانت السبورة والمحاضرة بصوت الأستاذ، ثم تطور الموقف وأصبح هناك برمجيات لعرض المعلومات مثل (powerpoint)، الآن ظهرت برمجيات الذكاء الاصطناعى مثل (chatGPT) ويمكن أن يستخدمها الأستاذ والطلبة معا، الأستاذ يطب من الطلبة استخدامها لعمل بحث معين ثم يطلب منهم إرفاق السؤال الذى أعطوه للبرنامج والتعديلات التى كتبوها فوق ما انتجته البرمجيات، ويمكن للأستاذ استخدام تلك البرمجيات لعمل مسائل جديدة للطلبة أو ابتكار مشاريع جديدة طبعا مع مراجعة ما تنتجه تلك البرمجيات لأنها مازالت فى طور التجارب وبعض ما تنتجه يكون ناقصا أو خاطئا. فى القرن الحادى والعشرين التفكير النقدى واستخدام الأدوات التكنولوجية أصبح أكثر أهمية من الكم، فهل نحن جاهزون؟
د.محمد زهران