استشراف المستقبل
قراءة في كتاب (المستقبل، ستة محركات للتغيير العالمي )
لـ آل غور [نائب رئيس الولايات المتحدة سابقاً]
بقلم: حيدر محمد المعاتيق
المدخل:
يمكننا كبداية لدراسة الاستشراف أن نرجع للذاكرة البشرية حول هذا الموضوع فلا شك أن دارسي الأنثربولوجيا يقفون أمام محاولات الإنسان القديم الملحّة على استشراف المستقبل وظهور طقوس الكهانة والتنجيم وقراءة الطالع والتاروت وغيرها، ويتضح أيضاً في ما ذكر من الأساطير كـ(أبولو) إله اليونان المختص بالنبوءات وغير ذلك من نظائره في المثيلوجيا.
هذه الحالة الفكرية الإنسانية ممزوجة دائماً بالرؤية الكونية ومحاولات الإنسان فهم الزمان.
لدى المنظومة الدينية نجد أدبيات قراءة المستقبل تتضح منذ الحدث الأول في خلق آدم [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ]، ويعوّل بعض العلماء أن أصل التكليف البشري كان منبعه استشراف آدم للمستقبل -ما سيحدث- بعد غواية الشيطان له بالأكل من الشجرة المحرّمة.
وتجد أن أهم عنصر في إعجاز الأنبياء يتضح في قراءة الغيب والمستقبل، بل إنّ جوهر النبوة هو في بيان العلاقات التكوينية بين السلوك البشري والمصير القادم للأمة، والتي نعبّر عنها بالسُنن الإلهية.
ولأن استشراف المستقبل لدى الإنسان يعتبر من أكثر المواضيع إلحاحاً وحاجة فإننا نجد اهتمام الدارسين بالنصوص الدينية التي ذكرت وبشكل ملفت ما سيمر به التاريخ البشري؛ أخذته كأحد المعطيات لدراسات حديثة خاصةً كـ (سفر دانيال) في العهد القديم و(رؤيا يوحنا) في العهد الجديد ومن قبلهم ما ذُكر في (أسفار أخنوخ) خاصة رؤيا الأسابيع فيه، فتتنوع الدراسات لهذه النصوص والتفسيرات في كل عهد وجيل.
وفي العصر الحالي وفي ثورة العلوم التكنلوجيا فإن أهم سؤال في الفلسفة التكنلوجية هو ما إذا كان مستقبل التكنلوجيا في صالح الإنسان والبيئة، وهذا الأمر يعد من المخاوف العالمية، فتجد تدوينات كثيرة حول المصير المرتقب للبشرية بعد التطورات العلمية الهائلة بحيث يصعب التحكم بها وخروجها عن السيطرة، أو حتى تطويعها لسياسات دول لا تحسن التصرف فتجر الويلات على الأرض ومن فيها. سيأتي لاحقاً تفصيل بعضها في عرضنا لما ذكره آل غور في كتابه.
في الحقيقة يحتل التطور التكنلوجي العنصر الأهم في الاستشراف الحديث، انعكس ذلك على كل الجوانب فحالياً لا يمكن قراءة المستقبل الاقتصادي إلا بقراءة رأسمالية وقد صارت الماركسية بعيدة عن الأمور لتغير طبقة العمّال إلى الآلات.
ومن هنا فإن استشراف المستقبل لابد أن يمر بأزمات الرأسمالية كنظام مغلق آلي يصعب فيه التحكم بانتروبيا النظام.
أما في الجانب السياسي، فإن ما يميز حالة التحليل للوقائع ووضع السيناريوهات المستقبلية لحال الدول بين القراءات الغربية والقراءات العربية، هو في تمكّن السياسي الغربي من المعطيات الدراسية كخطط وسياسات الدولة ومعرفته للمتغيرات أكثر من السياسي العربي والذي يستند على مجرد ردات الفعل للحوادث الحالية ومحاولة إعادة القراءة، ويمكننا أن نحدد أكثر التدوينات شيوعاً في هذا الجانب كتاب ( صدام الحضارات لـ صامويل هنتنجتون ) بينما التدوينات العربية فقيرة جداً ولا تنظر إلا للوقائع الحالية فظهور القاعدة أظهر لنا بعض التدوينات حول نشأتها والسياسات المستقبلية وكذلك ما حصل مع ظهور داعش وسيحصل مع أي حدث جديد.
ويعتبر استشراف المستقبل من أكثر العناصر الملفته في الأعمال السينمائية سواءً أتت تحت مظلة الخيال العلمي، أو أفلام السياسة والحروب، وأذكر مثالاً على ذلك ما عرض في السينما الأمريكية لحرب عاصفة الصحراء في تحرير الكويت من غزو صدام سنة 1984م أي قبل الحرب بـ6 أعوام.
من خلال هذا المدخل يمكننا أن نسلط الضوء على قراءة آل غور للمستقبل ومحركات التغيير ..
مع بعض التأملات في نظرته
الاقتصاد من منظور آلي: المحرك الأول (شركة الأرض)
الثورة التكنلوجيا في القرن العشرين صاحبتها فلسفة تربط العلوم والحقائق وتفسرها بشكل آلي ضمن دائرة نظام موحدة كان منشأها عبر فينر في ما اسماه بالسيبرنتيك، وأصبحت الدراسات الجديدة تفسّر الواقع من منظور آلي (سيبرنتيكي) عبر نظم التحكم.
وافقت هذه الفكرة الواقع السياسي والاقتصادي بشكل تام، فما عاد النظر إلى الرأسمالية-الديمقراطية مجرّد محاولة في مواجهة الاشتراكية وغيرها من النظريات، وإنما أصبحت في ديمومة الآلة الميكانيكية خاصةً بعد دخول الروبوتات الآلية وتحكمها في السوق العالمي.
أصبحت دراسات استشراف المستقبل الاقتصادي تنظر إلى الإقتصاد العالمي من منظور الآلة (المدخلات – المخرجات وحالة التغذية الرجعية) وهذه الأمر جعل من رقمنة السوق العالمي ومكننة عجلة الاقتصاد العالمي في مواجهة التحدي الجديد للشركات الرأسمالية وجعلها بين أمرين، الأولى في فتح المصانع في خارج البلاد والاستعانة بالعمالة الخارجية والثاني في استبدال العمالة البشرية بالأنظمة الآلية.
صناع القرار ورجال الأعمال في هذه المسألة لا ينظر إلى حجم الخسارة في تقليص عدد العمال أو الاستعانة بالعمالة الخارجية أو في خطورة إنشاء المصانع في البلاد الأخرى بقدر ما ينظر إلى نسبة الأرباح المرتفعة في حال جرى توظيف التكنلوجيا والآلات في المصانع مما يؤدي إلى تقليص دور العمالة البشرية والتخلص من أجورهم وبالتالي تكوين ما يسمى بـ(رأس المال-التكنلوجي) وهو نظام استثماري يزيد من انتاجية الصناعة والتجارة مع التخلص من أعداد كبيرة من الوظائف البشرية مع مرور الوقت.
عنصر (الاتصال -حلقة التغذية الراجعة-) في نظام الاقتصادي العالمي يعمل طردياً بين تعزيز وزيادة الاستعانة الخارجية للروبوتات والترابط الاقتصادي العالمي تجارياً واستثمارياً.
بعبارة أخرى النظام الاقتصادي في حالة من المكننة الدائمة بحيث يتم التخلص من العمالة البشرية وتعويضهم بالآلات بشكل متزايد وهذا ما يجعل من الوظائف الإشرافية أو ذات المهارة العالية في التعامل مع التكنلوجية هي المطلوبة وهذه بلا شك ذات رواتب عالية في حين تزاح الحاجة إلى العمالة ذات الأجور المخفضة، وهذا على مر الوقت له أثر تراكمي في عدم تساوي الدخل والصافي بحيث أن من يفقدون الوظائف هم أصحاب الدخل القليل بينما يستفيدون من زيادة القيمة النسبية لرأس المال-التكنلوجي أصحاب النفوذ والأجور العالية.
هذه إحدى مخاطر الرأسمالية في الاقتصاد العالمي فالآن لا ترى في الرسم البياني إلا ارتفاع هائل وزيادة مستمرة وتزايد في الثروة في القمة محصورة برجال الأعمال أصحاب الثروة بينما تنخفض الأجور ويزداد معاناة الناس في فقدان مصادر دخلهم بشكل مستمر.
قد القارئ لا يستوعب مدى فضاعة هذا الأمر فلذلك ضرب آل غور مثالاً بسيطاً حول التغير الهائل الذي أحدثته المكننة وإلغاء طبقة من العمالة بأعداد هائلة، المثال دار حول الأراضي الزراعية التي كانت تشغل كافة الولايات حيث أنشأت قوانين بتخصيص أراضي لكليات الزراعة والفنون الميكانيكة بينما أدت المكننة إلى تحول هذه الأراضي إلى (مصانع زراعية) فتغير المردود المالي بشكل هائل من إنتاج البيض والدواجن واللحوم وقلت تكلفة أجور العمالة بل تم الاستغناء عنها بشكل شبه تام.
الأزمة الثانية التي تواجهها الاقتصاد العالمي هو في المردود المالي للمنتجات الصناعية وخاصة الأجهزة الآلية، ويمكنك من ملاحظة الواقع في سوق الأجهزة الذكية من انخفاض أسعارها بعد مرور سنة وفائضها المعروض في الأسواق، والتي تقابل فائض الحبوب الزراعية المكدسة خلال عقد من الزمان قديماً.
هذه التخفيضات وإن كان أمراً مسلماً به إلا أنه لا يمكن غض الطرف عن أثره التراكمي في عالم العمل، فقد أصبحت حالة الاستثمارات ليست على مجرد سلع، وإنما مع الزيادة الهائلة من الاستثمارات العالمية المنافسة، أصبحت الشركات مرتبطة بحلقة عالمية واسعة النطاق من التغذية الرجعية.
والأزمة الثالثة في النظام الاقتصادي الحالي تتلخص في إعادة النظر في الموارد، فالثورة التكنلوجيا إضافة إلى تحويل دور العمالة والرأس المال إلى عوامل انتاج في الاقتصاد العالمي، تحوّل أيضاً الموارد، فقد أدت التكنلوجيا إلى تطورات هائلة في علم المواد والمواد الهجينة.
الخلاصة الرأسمالية في أزمة مستديمة مع عناصرها الثلاث: العمل – رأس المال – الموارد الطبيعية
المحرك الثاني (التكنلوجيا والدماغ العالمي)
من منطلق نظام السيبرنتيك والذي كان أحد اشتغالاته الرئيسية في محاكاة الجهاز العصبي العقلي في الإنسان مع الآلة، يمكننا من عقد مقاربة بين تطور وسائل الاتصال اللغوية مع تطور وسائل الإتصالات التكنلوجية.
من محاورة فايدروس لأفلاطون صوّرت لنا المحاورة وهي تشير إلى الكتابة -الاتصالات الحديثة للعصر- على أنها ستزرع في نفوس الناس النسيان، ويتوقفون عن تمرين الذاكرة لأنهم سيعتمدون على مرجع مكتوب يستعينون بالإشارات كوسيلة للتذكّر.
أفلاطون كان يشير في ذلك الوقت على أن العقل البشري انتقل من التخزين المستمر لأفكاره والتعبير الصوري في عقله إلى الإشارات أو المراجع المكتوبة بشكلها الخارجي لتكوّن لدى العقل البشري ذاكرة خارجية.
كان لهذا الأمر أثره البالغ في تغيير خط المسير الحضاري للبشرية نحو التكامل والبناء على صيغة الحِكم والأفكار الفلسفية خاصة بعد طفرتها في اليونان ويعود الأمر إلى اكتمال الحروف الأبجدية اللاتينية مقارنة بالمسمارية وغيرها، أولدت لنا خطاباً فلسفياً عالياً بحيث تجترح المصطلحات مثل الديمقراطية، وأولدت لنا مسرحاُ تراجيدياً وفنوناً كلامية خطابية إلى آخر السلسلة من العلوم الأدبية والفنية المعتمدة على التواصل اللغوي.
بالنمذجة نفسها يمكن النظر إلى التطور التكنلوجي في الاتصالات بدءاً من صناعة البرمجة الثنائية وانتهاءً في هذا العصر بالإنترنت والشبكة العالمية.
كما أن العقول البشرية أصبحت لها نتاجاتها التي ملأت المكتبات والأفكار التي لا حصر لها بين طيّات الجلود؛ فإن أضعاف هذه المعلومات على شكل بيانات ضخمة ومخلخلة مخزنة في عقل العالم الافتراضي، وصارت محل تطوير آلات تحلل البيانات الهائلة إلى درجة من التطلعات لصنع (صندوق الحياة) وهو تطلع افتراضي في محاكاة الشخصية عبر جمع كافة تغريداته ومحادثاته وردات فعله وطريقة كلامه واهتماماته بحيث ستكون متواصلاً مع العالم فسيغرد عنك بنفس ردات فعلك وطريقة كلامك وسيعبّر عن آرائك وأفكارك وسيؤلف أبيات الشعر بنفس شاعريتك كل هذا بعد موتك!
وكما أن علم النفس وفلسفتها تحاول أن تحلل شخصية الإنسان باستخراج المعاني العميقة في اللاشعور، كذلك يمكن الآن عبر هذه المعلومات الضخمة من تجميعها وتحليلها في أي جهة تريد، حالياً يمكن بناء برمجيات تنبئ عن الضجة الإعلامية والقلاقل السياسية قبل وقوعها، ويمكن رصد الصدمات الاقتصادية والاجتماعية قبل حدوثها بسرعة هائلة.
من هذه الحقيقة يمكن أن ننطلق إلى الأزمة السياسية الجديدة التي تواجهها الديمقراطية أو حتى أي نظام سياسي آخر، حيث لابد لهم من التكيّف مع النمط الجديد من التواصل وسلطة الكلمة الإعلامية كما كانت مع الصحف والمنشورات والمقالات فإن التطور اليوم في التواصل المستمر والضغط الشعبوي انتقل من مربع الشركات والحركات والأحزاب إلى مربع الأفراد ولك أن تنظر إلى الأحداث الأخيرة في تحشيد المتظاهرين في ميدان التحرير وتنظيم الاحتجاجات في إسبانيا وقيام الثورة في ليبيا وغيرها كان كل ذلك عبر التواصل عبر الفيسبوك وغيرها من المواقع.
ولدى الحكومات الحالية خيارات قليلة في هذا الأمر، التجربة الإيرانية -على سبيل المثال- نجحت في السيطرة بشكل كبير على استخدام الانترنت من قبل المحتجين بحجب المواقع، إلا أن هذا الحل لا يستمر ولا يدوم ولا يفيد في جميع الدول خاصة المفتوحة على الإتصال السريع.
الآن في هذا الظروف أصبح الإنترنت العقل، وجميع البشرية في أنحاء العالم خلايا عصبية حساسة وتنقل إشاراتها العصبية إلى الدماغ والدماغ بدوره يرسل رد الفعل التي تحرك بقية الخلايا العصبية نحو الحركة المطلوبة.
الأزمة التي تصاحب هذه الطفرة هي في مسألة الأمن والخصوصية، في كل نظام لابد أن نحسب حساباً للفوضى المتوقعة ما إذا خرجت عناصر النظام عن السيطرة وأداء الوظيفة، هذا ما يجعل من استخدام الإنترنت بين كونه وسيلة لتحقيق غايات نبيلة إلى سلاح فتاك.
فمادام الإنترنت صار امتداداً لعقولنا، فإن هذا العقل معرّض لأن يسخّر لأغراض شيطانية إذا لم نحسن ضمان الخصوصية والأمن، أو حتى إلى ضياع الحقوق الفكرية وسرقة الجهود العلمية على أقل التقادير.
خاصة وإن هذا العقل باتت خلاياه العصبية في كل حاجات البشرية من داخل البيت في أجهزة التكييف والإضافة وغيرها إلى داخل الشركات والمؤسسات وغرف الاجتماعات المغلقة.
هناك تلازماً في مقولتين (موت المسافة) و(اختفاء الخصوصية).
وقد عبّر آل غور بأن الموارد المستحدثة لشركات الإتصال هي في حجم وقيمة المعلومات المتوفرة للمستخدمين، وفي ظل وجود شركات اتصال ذات انتشار واسع فإن ضغوط البيع والمساومات وغيرها جارية خاصة مع إلغائها لحالة التسجيل الوهمي والمشاركة بالأرقام والأسماء والصور الحقيقية.
وجهود الحكومات العالمية في ضبط والتحكم بهذه الأمور تزيد من انفلات زمام التحكم أكثر فأكثر.
المحرك الثالث: توازن القوى
وفق ما طرحناه من النمذجة الآلية على النظام الاقتصادي والسياسي، فإن نسبة انتروبيا النظام -الفوضى العشوائية- الاقتصادي العالمي وكذلك السياسي في تزايد مستمر وعلى مستوى تصاعد حاد، ولإزالة هذه الفوضى؛ نحتاج فيه إلى توازن القوى والتوزيع العادل.
أول أزمة تواجه هذا الأمر هو في (القيادة) المفقودة في العالم، بين أقطاب التنازع السياسي الدولي، ومن ثم ضمان الجهة القيادية للقرارات الدولية.
الولايات المتحدة حيث محل دراسة آل غور للقيادة الدولية فإن إضافة إلى أزمة التدهور في النظام السياسي في الولايات المتحدة وغياب القيادة القوية خلقت فجوة كبيرة بين المشاكل التي تحتاج إلى معالجة ورؤية وبين حلها، إضافة إلى المنظمات العالمية التي تأسست تحت مظلة الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية كـ منظمة الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية هي حالياً بلا جدوى ولا قرار حقيقي بسبب التغيرات العالمية الجيوسياسية .
وبدل ما كانت تدفع نحو قيادة المجتمع الدولي إلى المصالح السياسية لكل الدول أصبحت تعزز النظر إلى القيادة الأمريكية نحو مصالحها الضيقة، وبالتالي فإنها حالياً فاقدة للثقة في قيادة المصير العالمي.
هذا الأمر قد ولّد لدى المحللين والباحثين سيناريوهات قادمة في تراجع السوق العالمي الرأسمالي وكذلك رجوع الأنظمة الديمقراطية وبالتالي ولادة قوى في جبهة حادة مع الولايات المتحدة، وهذا ما حدث في الجملة إلا أن المصير الحتمي في الانحدار بالمجتمع العالمي يلاحق هذه النتيجة.
الطبيعة البشرية المتكررة على مر العصور في التناقض الدائم بين محاولة سيادة السلام وتقليل القتل والحروب بزيادة القوة العسكرية للدولة المتصدرة للقيادة العالمية يبقي المخاوف على أوجها، وهذه المخاوف هي التي تولد التنافس ووضع قدم المساواة لدول أخرى في تعزيز القوة العسكرية أكثر، أي أن بعبارة أخرى: يبقى الخوف يولد الخوف، وتعزيز القوة على الحرب يشعر الآخر بنية شن الحرب عليهم.
وتعزيزات القوة العسكرية ترتفع بجانبيها الأسلحة الحربية، وتطور التكنلوجيا والعلوم وتطويعها لأغراض حربية، وهي دوامة مستمرة تقتل النظام العالمي (الاقتصادي والسياسي) في كل دورة أكثر فأكثر.
لن يصل المجتمع الدولي إلى حل لهذه القضية الشائكة حتى لو تطرّف في نظرته وتجرّد بخياله في تكوين نقطة العودة إلى الصفر وتخريب جميع الأنظمة وإعادة الهيكلة السياسية في كوكب آخر مسكون، فإن العالم لا يتعلم من هذه الأخطاء ولا يصل بعقله إلى حل لهذه الأزمات.
استشراف المستقبل يقف عند هذه النقطة، ويبقى الطريق المجهول خالياً من أي منار أو هدى نحو الوجهة المستقبلية للعالم.
إلا أن قراءتنا الدينية -إذا أردنا أن نسقطها على الواقع الحالي- فإن أول مراحل التعلّق بالأمل الإلهي هو (اليأس) من كل الأنظمة، وفقد الثقة بكل قيادة بشرية، والخوف من التجربة العشوائية التي قد تنتج دماراً أكثر للبشرية وسحقاً أكثر للإنسانية.
الأمل الإلهي وانتظار المصلح العالمي ليست مسألة سلبية كما يظن البعض، هي حالة من التهيئة الأرضية لاستقبال القيادة الحقيقة وإصلاح الواقع الحالي بعد جميع المحاولات وقيادة جميع الأنظمة وتجربة كل النظريات.
لذلك فإن إبادة الشر وتحطيم المملكات البشرية الفاسدة والتوجه نحو قيادة واحدة مهيمنة بالقوة العادلة هو آخر العلاج بل هو العلاج الوحيد.
ولنا عودة مع هذه النقطة في الجزء الأخير من المقالات.
فلابد من الرجوع إلى المحركات الثلاث الباقية التي ذكرها آل غور في كتابه.
المحرك الرابع: النمو السكاني وانتروبيا النظام.
لا يمكن أن نغض الطرف عن مسألة مهمة من أزمات نتائج النظام الاقتصادي الرأسمالي وهو وجود عامل النمو السكاني الذي يجب دراسته إلى جانب الإنتاج والتوزيع والتبادل، ذلك لأن العلاقة وطيدة بين تطور عدد السكان وتطور كمية الإنتاج، نظّر لها توماس مالتوس واستفيد منها سياسياً في توجيه النظر إلى هذه الأزمة التي تطارد شبح الجشع.
نظر توماس مالتوس إلى كل من السكان والموارد الغذائية على أنهما في تزايد مع مرور الزمن، ولكنهما لا يتزايدان بنفس المعدل، شبّه الاختلاف بينهما على أن زيادة السكان يزيد بشكل متوالية هندسية أما زيادة المواد الغذائية فهي على شكل متوالية عددية، وهذا يؤدي إلى انتروبيا للنظام الاقتصادي -فوضى عشوائية- ونتيجة لهذا الاختلال تظهر لدينا زيادة في معدل المظالم الإجتماعية، والحل الذي افترضه توماس مالتوس يكمن في ضرورة تدخل عوامل خارجية لإعادة التوازن بين نمو السكان ونمو المواد الغذائية وأهمها: الحروب والمجاعات والأمراض الفتّاكة.
في الحقيقة إن لنظرة توماس مالتوس أصل في الاستشراف للمستقبل عن طريق قراءة النصوص الدينية (المسيحية) خاصة رؤيا الفرسان الأربعة في سفر الرؤيا ليوحنا.
رؤيا الفرسان الأربعة -كما تفسّر- تشير إلى أربع قوى تفتك بالبشر وهي: ١. الصراعات والحروب ٢. المجاعة ٣. الجهل ٤. الموت
بقيت هذه العوامل الخارجية التي طرحها مالتوس مبررات للسياسات العالمية على الشعوب رغم تغير مصاديقها من جيل إلى جيل..
فبدل حملات التعقيم التي لم تنجح في امريكا بين عامي 1907 و1964 استبدل الحل بتعزيز فكرة تحديد النسل عبر عوامل أربعة ذكرها رغم أنها غريبة للقارئ إلا أن الناظر إلى الواقع الحالي بنظرة شمولية ودقيقة يجدها منطقية:
أولعامل ذكره آل غور هو في تعليم الفتيات والعامل الآخر هو في تمكين المرأة في المجتمع!
نعم .. كان متقصَّداً أن تخرج المرأة من كون اهتمامها بالحضانة الأسرية والرعاية الأمومية إلى الاهتمام بالتعليم ومزاحمة التخصصات المتنوعة وترؤسها للأعمال والوظائف الإدارية والسياسية وغيرها.
هذا الأمر كوّن على صعيدين -كما بدا له- توازناً في النظام المختل، فقد ضاعفت المرأة من الانتاجات الاقتصادية والمردود المالي لدى الدولة، كذلك على الصعيد الآخر زاد من الوعي -كما يدّعي- بضرورة التحكم بعدد الأولاد والنسل لدى النساء.
لكن هذا الأمر قد استحدث منظومة أخلاق اجتماعية مشوّهة واختلال في النظام الأسري، فزادت نسبة الطلاق والعزوف عن الزواج وارتفاع متوسط سن الزواج في المجتمعات، وقبول الأمور المخالفة للفطرة من زواج المثليين وغيرها.
هذا الواقع الحقيقي للأمر يدعونا للتأمل، إن النظام الاقتصادي العالمي وفق هذا التنظير، يحل جانباً من الاختلال لينشئ اختلالاً في النظام آخر.
العاملين الآخرين اللذين ذكرهما هو التطور التكنلوجي الذي يحد من النسل ووضع البرامج التي تحل مشكلة انخفاض موت الأطفال!
رغم أن آل غور لم يركز النظر فيهما واستطرد في أمور أخرى إلا أنه واضح بين الأسطر على أن السياسة العالمية تسعى جاهدة إلى جعل التكنلوجيا لها اليد -عمداً أو تجاهلاً- لإبقاء مشاكل البيئة وتلوثها والأمراض المستعصية بلا حلول إضافة إلى برامج لإدارة الحروب أو إبقاء مجاعات في الشعوب لتقليل نسبة الإنجاب وموت الأطفال.
هذا الأمر يجعلنا لا نستبعد تعمّد السياسة العالمية إبقاء أفريقيا على الجهل والمجاعة، وصناعة الحروب في شعوب الشرق من أجل حل اختلال النظام!
وأي إفساد للنظام بدعوى الحل أكثر من ذلك!
هذا الملف رغم خطورته يضعنا أمام مستقبل مجهول لا حل إلا بإعادة العقل البشري إلى الفطرة واظهار كنوز الأرض وتوفير الموارد وتنشيط الاقتصاد وتوزيع الخير بين الأمم على مبدأ العدل والذي لا يمكن أن يتصور أنه قابل للتطبيق إلا بمدد إلهي وشخصية تحمل وزر هذه القضية بل تكون مكلّفة به.
الخلاصة: هذا الملف يدعونا من جديد إلى الإيمان بدور المخلّص الإلهي وعدم كفاءة البشرية لإعادة التوازن المختل في النظام العالمي. ولا حل غير هذا.
المتغيرات العالمية ومصير البشرية
في المثيلوجيا نجد هذا الخط الفاصل بين حياة الآلهة وحياة البشر وأن أي تعدي من البشر على قوانين الآلهية يلاحق بالعقاب.
أسطورة إيكاروس وديدالوس أكثرها تنبيهاً حول الواقع المستقبلي، حيث حدود استخدام الأجنحة المصمّغة للهروب من الجزيرة المحتجزين بها.
رغم أن الخلاص قد لاح بالأفق لإيكاروس إلا أن شدة فضوله رغم تحذيرات والده بعدم تجاوز الحدود في التحليق قد أوقعه غريقاً ليموت.
تلخص هذه الحادثة قصة الخلاص للحضارة الإنسانية بين العالم البشري والتطور التكنلوجي، والذي يعكس أن التطور التكنلوجي في مساعي مساعدة البشر نحو الخلاص والراحة إلى الآن البشرية لا تدرك حجم حدود التكنلوجيا في حياتها، وما زالوا يحلقون بفضولهم متجاوزين كل الخطوط والحدود المرسومة، فها هم يعبثون بالجينات تارة ويخربون النظام البيئي بالتلوث تارة أخرى، ويعيثون في الأنظمة الاقتصادية فساداً وينتهزون الموارد الطبيعية للجشع اللامحدود، لا من حد ولا من قيد للاستخدام، أما في مجال القرصنة والأمن والمعلومات فحدث ولا حرج.
لا تقدر القيادات العالمية -إن وجدت وهي مفقودة بسبب الصراع بين الأقطاب السياسية- على وضع قوانين وحدود لكل هذه التجاوزات، وحتى لو وضعت فكيف ستكون هذه القوانين قابلة للتطبيق على مستوى العالم البشري كافة!
آل غور يختتم بحوثه في المتغيرات العالمية ومصير البشر إلى وضع نقاط أساسية لحلها، وكل الحلول لو أردنا قراءتها عبر معطيات اليوم، تكون أشبه بالمستحيلة لأنها تعتمد على قطبين أساسيين ، قيادة عالمية تمتلك الحكمة والصرامة، وأمة بشرية ذات عقل عالمي واحد ومنقادة للقيادة الحكيمة بشكل تام.
كل هذه السلسلة من المقالات لنصل إلى نتيجة واحدة وقد سلف ذكرها. وهي أن من يستشرف المستقبل بقراءة المعطيات المادية والمحسوسة يصل إلى نتيجة ضرورة القيادة الحكيمة العالمية ليعيد التوازن في كل الأنظمة التي باتت بفعل البشر وجشعهم وغرائزهم في السيطرة والفساد تدمر ذاتها بذاتها.
هذه القراءات نحو المصير المجهول يضع سؤالاً جوهرياً ما إذا كانت البشرية بلا راعٍ يرعاها أو مسئول يتولاها، فهل تقدر على التحكم بمصيرها المرتقب؟
كل المؤشرات للحلول تجيب بـ كلا .
إذن ليفرح أصحاب النزعة المادية بالحضارة البشرية التي باتت على حافة الهاوية، وليغردوا في أسرابهم نحو (التطلعات الإنسانية) و(الاهتمام بالإنسان) حتى ينتهي بهم المطاف إلى الهلاك الجماعي، بسبب هذه التطلعات وهذا الاهتمام.
لا يجدي هذا الكلام المعسول ولا يحل من الازمة الحالية في شيء، محض مخدرات تنشل العقل عن التفكير ليعيش في وهم السعادة وإفراز الدوبامين المؤقت.
من الأمور الهامة لدارسي استشراف المستقبل، أن الفكر البشري يجد في أعماق تجربته عوامل ليست بالحسبان تدخل عنوة في صورة التوقعات لتقلب الأمور وتغير الوقائع. هذه التجربة البشرية تدلنا على أمر هام..أن هناك أمل منعقد على عوامل خارج الحسابات البشرية يعيد كل الاختلالات الحاصلة ويغير كل التوقعات، هذا التعلق بالعامل، مهما تستر بالأسماء هو إيمان بالغيب وهو ما نسميه (انتظار الفرج)
التفاؤل والسعادة في المستقبل لا يأتي إلا بالخضوع إلى مقوّم غيبي وراعٍ إلهي ودور لقيادة فوق البشرية، تعيد الأمور إلى نصابها الفطري ويضيف إلى العقل البشري كماله الموجه نحو الخير للبشرية، حتى وإن خضع هذا القائد إلى مسميات خيالية سينمائية فالأظلال العديدة المتصلة لا تشير إلا إلى جسم واحد.