دراسة تأصيلية في بيان أهمية استشراف المستقبل والتخطيط له وحاجة الدعوة والداعية إليه ووسائل معرفته من خلال النصوص الشرعية.
د. علي بن محمد عبدالله الشنقيطي
مستخلص:
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلام على إمام الدعاة الذي راعى الماضي، وعايش الحاضر، واستشرف المستقبل وخطط له، ووجه الدعوة والدعاة إلى ما سيقدمون عليه في قابل الأيام ورضي الله عن صحابته الكرام الذين قاموا بواجب الدعوة إلى الله وفَقِهوها ووضعوا كل شيء في مرتبته بالعدل، فبلّغوا الرسالةَ وأدوا الأمانة، وقالوا للناس حسنا.
[وبعد،] فإنّ من البصيرة في الدعوة إلى الله، التي هي وظيفة الأنبياء، ورسالة الله في كتابه الحكيم، أن تقوم على خطط محكمة تهدي للتي هي أقوم، ولذلك كان استشراف المستقبل والتخطيط له أولى من مفاجآته دون سابق توقع وتقدير، فنجاح الداعية في الغالب متوقف على قوة أو ضعف استشرافه للمستقبل، والتخطيط له، وذلك مما لا ينبغي الزهد فيه أو الاستغناء عنه، لأنّ الوقوف وعدم تقدير الظروف، ومعرفة الخطوات القادمة، أمر غير مقبول ولا تحصل منه نتيجة، وهو فشل وتخبط والأجدر بأهل الحقّ أن يأخذوا بالأسباب، فيخططوا ويتوكلوا على الله، ويفرقوا بين الأمنيات والإمكانات، ولا ينطلقون من خيال، إنما من واقع مدروس.
وموضوع المستقبل واستشرافه؛ يشترك فيه جميع البشر، فالحياة التي يعيشونها تبحر بهم إلى المستقبل، وساعاتها وأيامها تتقدم بهم دائما إلى الأمام، والعبرة في سعادة البشر هو ما تؤول إليه حياتهم في نهاية المطاف؛ لأنّ العبرة بالخواتيم، وغيابه في حياة الناس عموما والدعاة على الأخص يؤدي إلى كثير من التخبط والعشوائية في المواقف وتقدير الخطوات، بل قد يجعل الواحد يعيش في دوامة وحيرة لعدم وضوح الرؤية عنده، وللغموض الذي يسيطر على مستقبله وطموحاته، وهناك تصورات خاطئة لبعض المفاهيم الشرعية تزهّد البعض في الانطلاق والتخطيط والتفكير في المستقبل، فيعيش حياته خاملا، لا يفكر في أبعد من قدميه.
واستشراف المستقبل والتخطيط له أصبح في عالم اليوم من الضروريات؛ لأنّ العالم لا يستمدّ قوته من عضلاته المفتولة ولا من قدر الحديد الذي يملكه؛ لكنّه يستمدّ قوّته بالدّرجة الأولى من قوّة استشرافه للمستقبل والتخطيط له، وبعد النظر، واستحضار النظرة المستقبلية للأمور، وهذه المعاني والمعالم لا يمكن أن تستغني عنها الدعوة إلى الله في عصر يؤسس كل شيء على العلم، ولم يعد يقبل الارتجال والغوغائية في أمر من أمور الحياة، فلابد لأيّ عمل جاد من الدراسة قبل العزم عليه، ولابد من الإقناع بجدواه قبل البدء فيه ولابد من التخطيط قبل التنفيذ.
ولذلك فيعتبر استشراف المستقبل والتخطيط له والفقه فيه معلما مهما في نجاح الدعوة والداعية؛ لأنّه وجد من الدعاة المخلصين من تأثر بواقع المسلمين المرير، وما هم فيه من ضعف، فتحمس للتغيير، وإنقاذهم مما هم فيه، وانطلق في تنفيذ واجب الدعوة إلى الله؛ دون استشراف مستقبل أيامه ودون أن يخطط ويدرس حجم الواجب الذي عليه أن يؤديه، والقادم الذي ينتظره ويترتب عليه؛ فكانت النتيجة المباشرة أنّ هؤلاء الدعاة أخذوا يرتجلون في أعمالهم وأقوالهم، ويتخبطون في منهجياتهم وأساليبهم ووسائلهم، منطلقين في ذلك من الرغبة في تحقيق واجباتهم، غاضّين النظر عن إمكاناتهم وقدراتهم.
وتتأكد الحاجة للنظر إلى المستقبل واستشرافه والتخطيط له في حياة الدعوة والداعية، لأنّ العمل الدعويّ بحاجة ماسة إلى رؤية مستقبلية متكاملة وواضحة، بعيدا عن الارتجال والعشوائية والتخبط، وردّات الأفعال، والتي نلحظها بارزة في الأعمال الدعوية والمشاريع الإصلاحية، حتى يحصل للدعوة الاستقرار والأمان والقوة، التي هي من صميم الإعداد المأمور به شرعاً؛ فلنعدّ في هذا المجال ما نستطيع من قوة.
والداعية إلى الله أولى الناس باستشراف المستقبل والتخطيط له، لأنّ واجبه أن لا يَدَعَ الأمور تجري على أعنتها من غير انتفاع بتجارب الأمس، ولا رصد لوقائع اليوم، ولا تقويم للصواب والخطأ في الاجتهادات المحتملة، ولا مقدار المكاسب والخسائر في المسيرة بين الأمس واليوم، ولا معرفة دقيقة بما لدينا من طاقات وإمكانات مادية ومعنوية، ظاهرة أو كامنة، مستغلة أو مهدرة، وما هي مصادر القوة ونقاط الضعف، التي ينبغي أن يقدرها، ويتحسب لها قبل وقوعها، ونحو ذلك من النظر والتأمل.
ولا ينبغي أن يُفهم أنّ استشراف المستقبل والتطلع لمعرفته أمر شكلي، بل هو عين الفقه والبصيرة في الدين؛ للإحسان في الدعوة والتخطيط لها الذي هو مهمة الدعاة إلى الله والباحثين، فلا ينبغي أن تقتصر دراساتهم على الأبحاث التراثية التي تستعرض الماضي وتجترّ أحداثه، أو الاكتفاء بالتعاطي مع الطوارئ والنوازل فحسب، بل لابد أن تتجاوز البحوث والدراسات الزمان والمكان؛ لتفتح آفاق المستقبل للدعوة والداعية، حتى يرسم خطواته، ويحدد خارطة طريق دعوته بمعالم مدروسة، وفقه دعوي أصيل ومعاصر؛ معتمدا على منطلقات شرعية، ومع التقدير والاحترام لكل الماضي والحاضر لكن الاهتمام بالمستقبل لابدّ أن يكون حاضرا دائما في ذهن الداعية، وظاهرا في جهوده العلمية والعملية؛ لأنه نتيجة منطقية للماضي والحاضر.
وسنحرص في هذه الورقات على تأصيل هذه الحقيقة، وفقه شيء من معالمها، والوقوف على أبرز الوسائل في معرفة المستقبل، بعد التمهيد لهذه الوسائل والطرق بفصل يحسن فيه التعريج على أهمية استشراف المستقبل في حياة الدعوة والداعية، وإلا فإنّ موضوع استشراف المستقبل والتخطيط له موضوع واسع وعلاقته بالدعوة والداعية تزيده سعة وإثراء، ولكن محور المشاركة في هذه الدراسة هو الربط بين أهمية استشراف المستقبل والتخطيط له، وبيان حاجة الدعوة والداعية إليه في العصر الحديث الذي أصبحت كل المشاريع فيه لا تقوم إلا على الدراسات المستقبلية واستشراف المستقبل، وستركز الدراسة في صلبها على الوسائل الشرعيّة لاستكشاف المستقبل والتعرف عليه وتجليته، كل ذلكـ بالتأمل في النصوص، من خلال الأحاديث الشريفة والهدي النبوي لإمام الدعاة لتكون هذه الورقات دراسة تأصيلية من خلال [الـ]نصوص الشرعية لـ(استشراف المستقبل والتخطيط له وحاجة الدعوة والداعية إليه).