أصبح علم استشراف المستقبل اليوم من أهم العلوم الإستراتيجية للمؤسسات الحكومية والأهلية وللدول التي تضع خططها الإستراتيجية المستقبلة بناء على قراءة التاريخ وتطور الأحداث واستخلاص العبر والدروس العلمية ، وأصبح الاهتمام بهذا العلم يزداد يوماً بعد يوم حيث إن توافر التخطيط الاستراتيجي المستهدف المستقبل يعد بحق الحد الفاصل بين المؤسسات والدول التي تبقى وتزدهر والأخرى التي تذوب وتندثر. والتأريخ مليء بالأمثلة عن المؤسسات والدول التي اندثرت بسبب عدم اهتمامها بدراسة المستقبل أو قراءتها الخاطئة لتطورات المستقبل وفشلها في اتخاذ المواقف المطلوبة التي تمكنها من الاستعداد للفرص والتحديات المستقبلية.
والعلماء والباحثون المتخصصون يستنتجون بالتنبوءات واستشراف المستقبل الأحداث المتوقع حدوثها بإذن الله بالاعتماد على مجموعة من الأسس العلمية في البحث والتحليل والتقويم ومجموعة من القواعد والمسلمات وإخضاع مجموعة من الفرضيات العلمية للبحث والدراسة والتجريب وتحليل مجموعة من الأحداث التاريخية والمعاصرة وبالتحليل للعلل والمسببات وبالقياس والمقاربات يتوصلون إلى مجموعة من الاستنتاجات التي تفيد في بناء الخطط الاستراتيجية لتلافي المعوقات وأسباب الفشل المتوقعة في المستقبل لضمان النماء والتطور والتحديث المستمر في النظام المؤسسي من مدخلات وعمليات ومخرجات.
فاستشراف المستقبل يوفر لصناع القرار فرصة وضع الخطط والاستعداد لما هو متوقع الحدوث، إما بالتنبيه لخطر داهم ومحاولة تفاديه أو بإدراك فرصة متاحة ينبغي الاستفادة منها ، وقد نشأت في الكثير من دول العالم المتقدم مراكز متخصصة لاستشراف المستقبل تقوم على البحث والرصد والمتابعة والتحليل للأحداث المتواترة وتعد منطلقًا مهمًا وأساسًا لبناء الخطط الاستراتيجية بعيدة المدى ، ولم يكن الإسلام بعيدًا عن التوجيه إلى هذا العلم فمعرفة السنن الكونية من أنفع وأقوى الوسائل التي تمكن الإنسان من استشراف ما سيكون، يقول الله تعالى “قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ” (آل عمران-137)، وهذه المعرفة لا تأتي من الدراسة السطحية للتأريخ والسنن الربانية وإنما تأتي من الدراسة المنهجية التحليلية القائمة على فهم وإدراك راسخ للسنن الربانية وفعلها في الأمم ، وتعد دراسة المتغيرات الإحصائية للأحداث وتتبع اتجاهاتها على مقاييس الرصد والإحصاء والربط والمقارنات والارتباطات الخطية واحدة من أدوات التحليل العلمي لبلوغ الاستنتاجات العلمية للتنبوءات بالأحداث المستقبلية ، فعلى سبيل المثال دراسة نسبة المواليد في الأمم ومقارنة ذلك بنسب الوفيات وارتفاع معدلات الأعمار التي تعطي فكرة واضحة عن الزيادة السكانية والتوزيع السكاني لعقود مستقبلة ممتدة تفيد في وضع الخطط الاستراتيجية للخدمات الاجتماعية المتنوعة ، ولعل علم الأرصاد ومتابعة الظواهر الكونية قد حقق قفزات مهمة جدًا في مجال التنبؤات المستقبلية ، وإن كان هناك من يرى استحالة تحقيق المصداقية الكاملة في نتائج الاستشراف والتنبوء للظواهر الكونية مثل عالم الأرصاد الجوية (إدوارد لورينتز) الذي اهتم لعقود بدراسة إمكانية التنبؤ بالتغيرات التي تحدث في الطقس ، حيث طور نموذجا لمحاكاة تحولات الطقس مؤلفا من مجموعة معادلات لوصف المتغيرات الجوية حيث يقوم من خلالها بتوقع نظري للتغيرات التي تحدث في الطقس بحسب الشروط الأولية التي توضع. لكنه اكتشف أن النتائج تختلف بشكل كبير إذا ما حصل أي تغيير ولو كان طفيفا في نقطة البداية، وعلى ذلك استنبط بأنّه من المستحيل توقع الطقس بدقّة وقد قادَه هذا الاكتشاف إلى تشكيل النظرية العلمية التي عرفت لاحقا بنظرية الفوضى.
وعند متابعة أغلب الدراسات الاستشرافية والتنبؤات المستقبلية بهدف التخطيط للمستقبل نجد أنها تقوم على المبادئ التالية:
1- استخلاص العبر من الأحداث الماضية من خلال دراسة أهم التطورات على المستويين الدولي والإقليمي وما ينتج عنها من تأثيرات مثل: الفرص المُتاحة، القيود المفروضة أو التهديدات والمخاطر الناجمة، بهدف تحديد صورة مستقبلية.
2- تصور وضع مستقبلي، لعقدين أو ثلاثة عقود، لتحديد الأهداف والمصالح التفصيلية ، وذلك باستخدام النماذج الرياضية الحديثة.
3- تجنب أي انحياز أيديولوجي، والانطلاق من المسلمات والفرضيات المتفق عليها بأساليب البحث العلمي والفكري والعقائدي والتكنولوجي.
4- تعيين القدرات اللازمة لإنجاز أي مسار مستقبلي، وحساب النفقات اللازمة والمخاطر. وكذلك تحديد الآليات اللازمة للتنمية والتي ينبغي أن تشمل أهداف معروفة علميا، وتطوير الخبرات العلمية في مجال إدارة المشاكل المعقدة.
5- التركيز على عوامل التنمية في مختلف القطاعات والتطورات الاحصائية لنمائها ومعوقاتها.
6- اعتماد خطط واحتمالات متعددة لجميع الحالات الطارئة المحتملة.
وقد ظهرت عبر تأريخ دراسة المستقبل وإخضاعه لضوابط العلم مجموعة من النماذج أشهرها النموذج البدهي ، ويعتمد هذا النموذج على الخبرة العملية الذاتية المستمدة من رؤية بدهية ناتجة عن خبرة ذاتية ، وهو محاولة للتعرف على التفاعلات المستمدة من قضية معينة بواسطة الحدس ويفتقر إلى الاعتماد على البيانات والمعلومات ، بينما يقوم النموذج الاستكشافي على مقارنة العلاقات والتشابكات بين الماضى والحاضر والمستقبل والعلاقة التناغمية القائمة بينها ويعتمد البيانات والإحصاءات والرصد والتحليل العلمي ، ويقترب النموذج الاستهدافي أو المعياري بالنموذج البدهي في النظرية ويزيد عنه بالاستفادة من مختلف التقنيات العلمية المستخدمة ، ويأتي نموذج التغذية العكسية من أكثر النماذج انتشارًا لدراسة المستقبل وتوقع التنبوءات وهو يركز على جميع المتغيرات و يعتمد على البحوث الاستكشافية والبيانات والوقائع والبحث التنظيمي، ويهتم بالإبداع والخيال والتقدير.
ويعتبر عالم الاجتماع الأمريكي جيلفيلان (s.gilfillain) أول باحث استخدم تعبير علم المستقبل (science of the future) في أطروحة تقدم بها إلى جامعة كولومبيا لنيل درجة الدكتوراه عام 1920 وكان قد استخدم في مقال له عام 1907 مصطلح (mellontology) وهي كلمة لاتينية تعني أحداث المستقبل… كما أطلقه عام 1943 عالم السياسة الألماني أوسيب فلختايم (ossip felecchtheim) الذي كان يدعو لتدريس المستقبليات منذ عام 1941، وكان يعني به إسقاط التاريخ على بعد زمني لاحق.. وقد انتقد العالم الهولندي فريد بولاك( fred bolak) هذا المصطلح على أساس أن المستقبل مجهول فكيف نرسي علما للمجهول ، وقد استمر الجدل حول هذا العلم زمنًا حتى عقد إدوارد كورنيش في كتابه ((المستقبلية)) فصلا بعنوان: ((حقل يبحث عن تسمية)) يقول فيه:
“لا يعرف المستقبليون ماذا سيطلقون على موضوعهم، بل حتى إنهم لم يتفقوا على ماهيته، وهل هو علم أم فن أم فلسفة أم شيء يختلف عن هذه الموضوعات. ومن الأسماء التي أطلقت على هذا الحقل من العلم والذي بات يتمتع حاليا بتداول كبير: بحث الأمور المستقبلية أو المستقبلات، ودراسة المستقبل، والريادة المستقبلية ، وعلم المستقبل واستشراف المستقبل، ونحوها.
إن الفكر الإداري المتطور يقوم على التخطيط والتنظيم والتقويم والمتابعة والتطوير ، ويعد التخطيط العنصر الرئيس في الإدارة الحديثة والمستقبلة ، وهو أحد العناصر المهمَّة لنجاح أيِّ عمل بشري، ويراد به: “التصوُّر المستقبلي المبني على الدراسة والتحليل للوقائع والإحصائيات الثابتة للعمليَّات المسْتقبليَّة “، ويتم عادة قبل العمل والتنفيذ ، ويشمل التخطيط رسْم الأهداف العامة والخاصة ، ودراسة المستقبل (الاستشراف والتنبوء والتوقُّع)، ورسم السياسات واللوائح ، وتحديد االجداول الزمنية للتنفيذ،ودراسة الموازَنات المالية المتوقَّعة، فدراسة المستقبَل هي أحد العناصر الرئيسة لنجاح التخطيط ، فالاستشرافُ يعتمد على أساليب علميَّة، تقوم على فَهمٍ للماضي والحاضر، والعوامل المختلفة ذات الأثر فيها؛ فهو جُهد علمي له أُصُول تخصُّه، ولا علاقة له بالرَّجْم بالغَيْب، وبالنظر في عددٍ من الكتابات التي طرقت موضوع (الاستشراف) وعالَجَتْه؛ مع المظانِّ الشرعية العقَدية والأصوليَّة والفقهية- يتَّضح أنَّ علم – استشراف المستقبل – منَ العلوم التي لها أصول شرعيَّة مرعية؛ وأنَّه من العلوم التي ينبغي العناية بها، وتأصيلها من الناحية العقديَّة والفقهية، وضبطها بالضوابط الشرعيَّة، التي تَبِين من خلالها الفروقُ بين الاستشراف من المنظور الشرعي، وغيره ، وقد بذل جهدًا مشكورًا من معهد القضاء العالي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لتأصيل هذا العلم تأصيلا شرعيًا للإفادة منه في منفعة الأمة ولعل المهتمين به يراجعون تلك الجهود في مصادرها.
ولإيماني التام بأن هذا العلم من أساسيات الإدارة الحديثة والمستقبلة والأساس المنهجي للتخطيط الاستراتيجي بعيد المدى ومتوسطه وقريبه ؛ فسأخصص هذه السلسلة بإذن الله تعالى لتطبيق منهج علم استشراف المستقبل على مجموعة من النظم والخطط والإجراءات التي ستفيد بإذن الله تعالى أجهزة التخطيط والباحثين وطلاب العلم للتطوير وقيادة المستقبل ، وآمل أن يفيد منها وطني المعطاء أولا كما يفيد منها كل مهتم بهذا العلم وتطوراته في جميع أنحاء العالم ، والله الموفق والمستعان.