أخلاقيات علم المستقبل
د.إسحاق السعدي
الجانب الأخلاقي في علم المستقبل وثقافته من أهم ما اتسمت به حضارة الإسلام ومدنيته عبر التاريخ، والبشرية قاطبة في أمس الحاجة لهذا المضمون الأخلاقي بصفة عامة، وفي هذا الحقل من الدراسات المستقبلية بخاصة، ولئن تراءى – بصفةٍ أو أخرى – في بعض أهداف الدراسات المستقبلية وبعض أساليبها ووسائلها من حيث التنظير فإنه يغيب بل ينعدم في الكثير من تطبيقاتها وبخاصة فيما يتعلق بمستقبل الإسلام والعالم العربي الذي يريده الغرب و يخطط له . لقد جاء علم المستقبل في الإسلام كنظام متكامل ليس في حدود الدنيا فقط أو الآخرة فقط بل ربط الدنيا بالآخرة وجعل الآخرة هي الأهم، حيث أسس الإسلام علم المستقبل على أخلاقيات تحكم تعامل الفرد في ذاته ومع ربه ومع من حوله ليتحقق له بها الاستقرار مع نفسه والثقة بذاته، وتحمل المسؤولية، وأنه بسعيه يحقق المستقبل، وأنه لا يمكن أن يتمنى المستقبل بدون السعي في الحق والخير وبذل الجهد في مضمارهما واستفراغه جهده في ذلك، ولا يمكنه بالاتكال على الآخرين، وإنما المعول على أدائه الذاتي وأن الفاعلية الفردية مهمة جداً على أساس أن المستقبل لا ينبني من أوهام وتمنيات، وإنما بمجهود يقوم به الشخص كلبنة صالحة للمجتمع إذ المجتمع مجموعة من الأفراد وبفاعليتهم مجتمعين ومن خلال عمل مؤسسي مخطط له على مستوى الأمة تتم من خلاله صناعة المستقبل وإنتاجه.القيم الإسلامية في منظومتها الأخلاقية ليست مجرد سمات يتصف بها الإنسان ويتحلى بها بل هي قوة من القوى التي امتاز بها الإسلام إلى جانب ذلك فالقيم الإسلامية في منظومتها الأخلاقية ليست مجرد سمات يتصف بها الإنسان ويتحلى بها بل هي قوة من القوى التي امتاز بها الإسلام وسينفرد بها في صناعة المستقبل المأمول بالمنظور الكلي ذي الصبغة الإنسانية الحضارية الكونية المتزنة لكونه حدد المستقبل وعلم المستقبل بمحددات أخلاقية تتناول الفرد لتجعل منه لبنة صالحة تستمد قوتها من تلك المنظومة الأخلاقية التي يتسم بها الفرد بالاعتماد على فطرته أولاً وبالالتزام التام بمصادر الإلزام الأخرى، ثم تتسع دائرة هذه المنظومة الخلقية لتنتقل إلى صعيد آخر على مستوى المجتمع وتتحول في هذه الناحية من قيم يتحلى بها الإنسان فطرةً وعبادة إلى قوانين وتشريعات ملزمة فيها احترام للمظهر العام والمصلحة العامة ؛ يقول مالك بن نبي : «وبأقصى التلخيص نقول إذا كان العلم من دون ضمير ما هو إلا خراب الروح فالسياسة من دون أخلاق ما هي إلا خراب الأمة». إلى جانب ذلك فالإسلام يرتكز على عقيدة مستقبلية أخلاقية فذة متميزة بما تملكه من رصيد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وبكون هذه الفطرة تتسق مع سنن الله في الكون والحياة والنفس الإنسانية في تجريد التوحيد لله والإنابة إليه والتوكل عليه، كذلك من حيث توافقها مع العقل في إقرار المفاهيم والمضامين وأساليب الاستدلال والتأثير على النفس الإنسانية ومحيطها الحياتي والكوني؛ ولا تتأتى بتكامل وتوازن كلي إلا من خلال رؤية الإسلام في الكون والنفس والحياة ولا يمكن أن يتحقق للإنسان وجوده وتتحقق له السعادة التي يطمح إليها إلا من خلال تلك الرؤية الأخلاقية التي جاء بها الإسلام، فإذا كان الإنسان الذي يعد المرتكز لذلك النظام لا زال مجهولاً في المعرفة البشرية المنجزة على الرغم مما بلغت من العلم والتقدم الحضاري كما يقرر(ألكسيس كارليل) في كتابه (الإنسان ذلك المجهول) وهو عالم مختص في مجال دراسة الإنسان إذ يقول فيه : «لقد بذل الجنس البشري مجهوداً جباراً لكي يعرف نفسه، ولكن وعلى الرغم من أننا نملك كنزاً من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان،فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسنا، إننا لا نفهم الإنسان ككل….إننا نعرفه مركبا من الأشباح تسير في وسطها حقيقة مجهولة». هذا دليل على أن المعرفة البشرية لم تصل إلى حقيقة طبيعة الإنسان، فكيف يتم التعامل مع المستقبل بمعطياته وعلائقه والقوى المحركة له برؤية كلية كونية متوازنة، وحقيقة الإنسان لازالت مجهولة والوصول إليها قاصر؛ هذا في حد ذاته دليل على حاجة الإنسان لدين يحتوي على علم المستقبل وقد تميز الإسلام بعنايته التامة بالمستقبل وعلم المستقبل من ضروب الإعجاز العلمي المعتبر في دين الإسلام. لا بد أيضاً من الفاعلية الإيجابية في الحاضر فلا يصح أن يعتبر الماضي وينسى الحاضر ناهيك عن المستقبل، فلا بد أن يستفيد المسلمون من خلال طرحهم الفكري والثقافي من الفاعلية في الحاضر وأن تتصف بالجدية وترتبط بالماضي و المستقبل ، وأن تتم من منظور متكامل يربط بين الدنيا والآخرة، وعالم الغيب والشهادة. كذلك فإن علم استشراف المستقبل يكمن في الرصيد الحضاري الضخم في الحضارة الإسلامية وفي الأسس التي قامت عليها انطلاقا من نصوص الكتاب والسنة والمنهجية التي أنجزها علماء الفقه وأصوله وغيرهم من علماء الشريعة في التعامل مع هذا المستقبل وبناء ثقافته على أسس اعتقادية وعملية وأخلاقية تتماهى مع مقاصد الشريعة الإسلامية ومآلات فقهها وأحكامه؛ فالكون الذي سخره الله تعالى للإنسان مرتبط بهدفي العبادة والاستخلاف في الأرض ولتحقيقهما تكون الفقه وتطور ونشأة مذاهبه ومناهجها الأصولية. خلاصة القول في ذلك: إن الإنسانية بحاجة إلى هذا البعد الأخلاقي الذي تفوقت به الحضارة الإسلامية ولا سيما أن العالم يعيش أزمات خانقة تأتي الأزمة الأخلاقية في مقدمتها.