علم المستقبل ومستقبل العلم
د. محمد زهران
دائماً ما نسمع أنه علينا دراسة التاريخ لأنه يعلمنا دروساً نستفيد بها في الحاضر وتساعدنا على التحضير للمستقبل، كل هذا جميل لكن أغلب ما نجده فيما يتعلق بالتاريخ هو الأحداث لكن نادراً جداً ما نجد دروساً مستفادة وما هو أندر هو كيفية استخدام تلك الدروس في الحاضر، فهل يمكن أن نجد مثل هذه الدراسات متاحة للخاصة والعامة؟ فمثلاً في قسم إدارة الأعمال العريق في الجامعة الأشهر جامعة هارفارد نجد أن أغلب مواد ماجستير إدارة الأعمال هناك (وهي من أفضل البرامج في العالم) قائمة على ما يسمى “الحالات” أو (cases) وهي دراسة مشكلة واجهت شركات في الماضي وكيف تصرفت، ويناقش الطلاب في المحاضرة الحلول الأخرى وتأثيرها، هذا مثال جيد على تحليل الماضي والاستفادة منه، فهل يمكن أن نتوسع أكثر ونستخدم تلك الطريقة في دراسة التاريخ كله وليس التاريخ المتعلق بالشركات فقط؟ هذا فيما يتعلق بالماضي والحاضر، فماذا عن المستقبل؟
علم المستقبليات هو علم يعتمد على عدة علوم تتكامل مع بعضها لتدرس تطور الحياة الاجتماعية والمشكلات البيئية والتقدم التكنولوجي والتطور العلمي والتغيرات الاقتصادية لتصل إلى تصور كيف ستكون حياة الناس في المستقبل القريب والمتوسط والبعيد حتى نكون مستعدين لها أو نعمل للوصول لها. فمثلاً كتاب إيمي وب (Amy Webb) المسمى “التسعة الكبار” وقد تحدثنا عنه في مقال سابق يتحدث عن أكبر تسع شركات في العالم تقوم بتطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، جزء ليس بالقليل من هذا الكتاب يضع تصورات عن كيف ستكون الحياة في عالمنا سنة 2029 و2049 و2069 (الكتاب نُشر سنة 2019) تحت تأثير تطورات الذكاء الاصطناعي. يضع الكتاب ثلاث سيناريوهات لكل سنة. ويدق الكتاب جرس الإنذار للعالم حتى نتجنب بعض تلك السيناريوهات، وحتى لا ندخل في تفاصيل كثيرة السيناريوهات تعتمد على نتائج الحرب الاقتصادية والتكنولوجية بين الصين وأمريكا، الشركات التسع الكبار منها ستة في أمريكا وثلاثة في الصين. هذا مثال على استخدام علم المستقبليات.
ما هو تأثير الاحتباس الحراري في المستقبل إذا لم يفعل العالم شيئاً؟ وإذا فعل ما هو أسوأ من الآن؟ وإذا فعل ما هو أفضل؟
ما هو تأثير فيروس الكورونا على الجامعات والمدارس إذا أصبح فيروساً موسمياً؟
كل هذه الأسئلة وما شابهها يحاول علم المستقبليات الإجابة عنها ووضع سيناريوهات محتملة، لكن كيف يفعل ذلك؟
لنعد إلى إيمي وب لكن ليس لكتابها لكن لمقال لها على موقع المقالات الشهير (medium)، المقال بعنوان “كيف يتعامل باحث المستقبليات مع الشك؟”، يبدأ المقال بتحذير باحث المستقبليات من استعمال الرأي القائم على الإحساس أو التفكير العادي لأن ذلك يجعل رأيه يعتمد على معتقداته وأيديولوجيته وثقافته الشخصية، لذلك نريد طريقة تفكير غير عادية، هذه الطريقة تسميها إيمي ويب “محاور عدم اليقين” أو
(Axes of Uncertainty).
عندما تريد وضع سيناريوهات للمستقبل متعلق بشيء ما إبدا بعمل قائمة بكل العوامل المؤثرة على والمتأثرة بهذا الشيء، هذه ليست خطوة سهلة لأتها تستلزم وجود خبراء في علم الاجتماع والاقتصاد والتكنولوجيات المختلفة والسياسة والمجالات العلمية المتعلقة بالموضوع الذي نبحث فيه، لذلك قلنا في بداية هذ المقال أن علم المستقبليات هو علم تتقاطع فيه علوم كثيرة (interdisciplinary).
بعد الانتهاء من القائمة انظر إلى كل عامل على حدة وقسمة لنقطتين واحدة متفائلة والأخرى متشائمة، فمثلاً لو كان هذا العامل هو وجود فيروس الكورونا فالنقطة المتفائلة هو انتهاء الفيروس في 2021 والنقطة المتشائمة هي استمراره معنا سنوات، افعل ذلك مع كل عامل في القائمة. الآن خذ كل عاملين مع بعضها، كل منهما ينقسم لنقطتين: متشائمة ومتفائلة، تقاطع العاملين مع بعضها سيعطينا أربعة سيناريوهات. كرر ذلك مع كل عاملين، في النهاية ستجد عندك عدد ليس قليلاً من السيناريوهات، بعضها قد يتشابه.
هذا طبعاً تلخيص مخل لكنه يعطي فكرة عن علم المستقبليات وكيفية وضع السيناريوهات.
إيمي وب تدير أيضاً معهداً للدراسات المستقبلية بجانب عملها بالتدريس في جامعة نيويورك، هذا المعهد ينشر كل سنة تقريراً عن السيناريوهات المتوقعة في كل فرع من فروع العلوم والتكنولوجيا، ففي فرع الذكاء الاصطناعي مثلاً هناك تنبؤ بابتكار الذكاء الاصطناعي للأدوية وببرمجيات تظهر المشاعر وسيناريوهات التزوير العميق (deep fake) والقرين الإلكتروني إلخ التقرير يتجاوز خمسمائة صفحة ويتكلم في مجالات عدة وليس الذكاء الاصطناعي فقط.
هل يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي نفسه لوضع السيناريوهات المستقبلية؟ ولم لا؟