نشأة الدراسات المستقبلية وصلتها بالتخطيط
بعد أن اتضح في المقال السابق أن للاستشراف وعلم المستقبل جذوراً في النفس البشرية والتاريخ الإنساني، ناسب الحديث عن نشأة هذه الدراسات في طورها الأول ثم في طورها الثاني وعن صلتها بالتخطيط بإيجاز ومقاربة.
ففي طورها الأول نشأت بجهود فردية، تمثلت في كتابات بعض الفلاسفة والمؤرخين عن المستقبل والتخطيط له الذين كان لهم الأثر الفاعل في إعلاء شأن التفكير المستقبلي بصورة مباشرة وغير مباشرة، إذ يعد الاهتمام بالزمن الشغل الشاغل لعددٍ من الفلاسفة بالسؤال عن ماهيته وفلسفة الحركة والظاهرة ومدى صلة الزمن بهما بما فيه المستقبل، حيث حاولوا معرفة كيفية التدخل في المستقبل من خلال استقراء الماضي وتجاوز سلبياته لاستكشاف ما سيحصل في المستقبل، إلا أن الجانب السياسي برز في المدن الفاضلة، فقد أسس (أفلاطون) في يوتوبيته الشهيرة «الجمهورية» لمجتمع المستقبل سياسياً، ذلك المجتمع الذي كان ضرباً من المستحيل الذي لا يمكن تحقيقه، إلا أن (أفلاطون) في مدينته الفاضلة فتح الطريق أمام مدن فاضلة أخرى عبر الزمان، وقد أنجزت فيها مؤلفات تميزت بنقد المجتمعات التي كان يعيش فيها أولئك الفلاسفة رغبة منهم في تغيير مجتمعاتهم للأفضل، وتعد تلك الكتابات من أوائل وسائل استشراف المستقبل، وإلى جانب ذلك فقد أسهم الخيال الأدبي والعلمي في نشأة الدراسات المستقبلية، وكان لهما أهمية لا يمكن الاستهانة بها في كونهما أدباً يسرد أحداثاً وروايات تصور مستقبل التطور العلمي والتقني وما يؤدي إليه من نتائج وهو يمزج بين الحقائق العلمية وسعة التخيل الحر.
الدراسات المستقبلية تتصل بالتخطيط من حيث المعلومات والسلاسل والاحصائيات والبيانات والأمور المتعلقة بالمستقبل، التي يعتمد عليها متخذ القرار مستقبلاًظهر الخيال أول الأمر كخيال أدبي يعتمد على الأساطير والعالم الماورائي والظواهر غير الطبيعية، ثم في مرحلة لاحقة ظهرت الدراسات العلمية المعتمدة على الخيال العلمي، وهو خيال يستند إلى حقائق كونية أو تاريخية يقدمها غالباً في شكل روايات، وقد أفضت تفاعلات عديدة في هذا الإطار إلى بروز الدراسات العلمية المتخصصة في معرفة المستقبل؛ منها على سبيل المثال لا الحصر الدراسات المتعلقة بما يسمى(القوة القادمة)، و(الانفجار السكاني)، و(البيئة)..الخ.
وخلاصة ما يلحظ من استقراء تاريخ نشأة الدراسات المستقبلية في هذا الطور الفارق بين المدن المثالية والخيال العلمي، حيث أخفقت المدن المثالية ونجح الخيال العلمي نجاحاً مبهراً، فما كان بالأمس خيالاً بعيد المنال أشبه بالمستحيل أصبح اليوم واقعاً في التقدم العلمي والمخترعات والمكتشفات والتقنية الحديثة، والسبب يرجع في ذلك في المقام الأول لاعتماد الخيال العلمي على البحث التجريبي فما كان من الخيال العلمي كذلك وخضع للبحث تحقق بصفة مذهلة إضافة لكون الخيال العلمي ينطلق في آفاق الكون والحياة بمنطق العلم في حين يرجع إخفاق المدن المثالية ربما لكونها تتصدى لحياة الإنسان بما فيها من تعقيد ومصاعب في نظمها المدنية وقيمها الإنسانية والحضارية ونظمها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فالمرجعية في الجانب الأهم منها إنما يرجع للدين والرسالة والنبوة ولا يتأتى إلا بالتشريع الإلهي.
أما النشأة الفعلية لعلم المستقبل فقد تمخضت في بداية القرن العشرين نتيجة استثمار الاستشرافات الفردية والعناية بالتخطيط لهذا العلم، والإفادة من التقدم في منهجية التفكير ودراسة الظواهر المختلفة بالوسائل العلمية المتطورة في ظل الثورة الصناعية، ونتيجة كذلك لسيطرة المناهج الوضعية على يد (أوجست كونت)وغيره من المفكرين، مما جعل النظرة إلى المستقبل تدخل مرحلة جديدة انتقلت فيها من مرحلة إلى مرحلة، ومن طور إلى طور، من مرحلة الأعمال الفردية إلى مرحلة العمل المؤسسي، ومن طور التبعية لعلوم أخرى والاشتباك بفنون متنوعة إلى طور العلم المؤطر والفن المتخصص،إذ تحقق فيه مفهوم العلم حيث أصبح: «مجموع مسائل وأصول كلية تدور حول موضوع أو ظاهرة محددة وتعالج بمنهج معين وينتهي بالنظريات والقوانين» كما عرفه بذلك بعض الباحثين وهو فن بالنظر للاستشراف من حيث كونه كما عرفه آخر بأنه: «مهارة عملية تهدف لاستقراء التوجهات العامة في حياة البشرية التي تؤثر بطريقة أو أخرى في مسارات كل فرد وكل مجتمع».
وبعبارة مجملة فإن الدراسات المستقبلية باتت تستهدف في جوانبها الفنية والعلمية، إدراك حقيقة المستقبل بآليات ومناهج وأساليب تتجاوز استشراف المستقبل الممكن والمحتمل إلى المستقبل المرغوب وصناعته.
وارتبطت كذلك بالتخطيط على صعيد الرؤية والإجراء، إذ يسهم الاستشراف بصفته مهارة وملكة في تكوين الرؤية للتخطيط، ويعزز الإجراء ويثريه بالوسائل والأساليب والأدوات والمعلومات.
وبالجملة فالدراسات المستقبلية تتصل بالتخطيط من حيث المعلومات والسلاسل والاحصائيات والبيانات والأمور المتعلقة بالمستقبل، التي يعتمد عليها متخذ القرار مستقبلاً، وإن كان مفهوم التخطيط والتخطيط الاستراتيجي يستخدم أحيانا كبديل عن مفهوم الاستشراف باعتبار الاستشراف بدأ ملازماً للتخطيط، وكان يسمى التخطيط، بيد ان الاستشراف يختلف عن التخطيط من حيث كونه يسبق التخطيط فيكون خلفية له، ويأتي التخطيط مبنيا على تلك الخلفية، ثم إن للزمن آثاراً عميقة يمكن أن تلحظ في ارتباط الدراسات المستقبلية بالتخطيط، فحينما يخطط للمستقبل مبتوتاً عن الماضي والواقع تظهر في المستقبل الأزمات والمفارقات والفجوات، ويظهر حينئذٍ البعد الغائب أو المغيب مما يوجب الوعي بالزمن الماضي وإدراك الحاضر، وأنهما الأساس الطبيعي والمنطلق الذاتي في التخطيط للمستقبل تخطيطاً علمياً صحيحا، وأن التخطيط للمستقبل يعني إيجاد موضع قدم للإنسان في المستقبل، ولا يتأتى ذلك إلا بالتخطيط العلمي المستقبلي السليم في مضمار التنافس والمسارعة واتخاذ التدابير اللازمة التي باتت ضرورة وليست من باب الهواية الفنية أو الترف الفكري.
د.إسحاق السعدي