تتجلى أهمية المستقبل في التنوع الكبير للمؤسسات والأدوار الاجتماعية المساندة للتنبؤ بالأحداث المستقبلية في سياق فكرة المستقبل بمعناها الجديد المستخدم، وقد أكد العديد من المفكرين على هذه الأهمية: قال باسكال : « إننا لا نفكر في الحاضر، فالحاضر ليس هدفنا فقط، بل الماضي والحاضر هما وسيلتنا، أما هدفنا الأوحد فهو المستقبل «
تحظى الدراسات المستقبلية في جميع الميادين العلمية والثقافية والسياسية والإعلامية والمعلوماتية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والاجتماعية وغيرها من العلوم بأهمية أساسية في التنمية المؤسسة والمبنية على العلم، وتساعد في تشكيل البنيوية الحضارية، وتنشأ الكليات من أجل إيجاد دراسة وتفهم للنظريات المستقبلية والإستراتيجية، وتؤسس مراكز الدراسات والبحوث للدراسات المستقبلية من أجل ضمان توفير الحلول العلمية التطبيقية المناسبة لكل المعضلات التي يمكن أن تبرز في المديات القريبة والمتوسطة والبعيدة، وأصبح علم المستقبليات جزءا رئيساً من التخطيط الإستراتيجي الشامل، ومن هنا نبع الاهتمام الجدي بالدراسات المستقبلية وجعلها واقعاً ملموساً في حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية وغيرها. ولكن هذا العلم “الدراسات المستقبلية” لا يجد الدعم المادي والمعنوي اللازمين في الدول النامية.
إضافة إلى أن منظومة التعليم الجامعي والتعليم العالي في الدول العربية بعيدة كل البعد عن هذا الحقل العلمي والمعرفي، الذي بواسطته يمكن تشكيل المستقبل وتحديد أهدافه والمساعدة في تبني الخطط الإستراتيجية المستقبلية، باستثناء جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية التي تقوم بتدريس وتطبيق هذا العلم في كلية العلوم الإستراتيجية .
وهذا العلم “الدراسات المستقبلية” ليس تأصيلاً للرجم بالغيب أو استلهام الطالع أو قراءة الفنجان، لا سمح الله، وليس دعوة للوهم والوهن، وإنما هو محاولة للفت الأنظار القصيرة لتتجاوز ما تحت الأقدام، وتفكر في الأفق والمدى القريب والمتوسط والبعيد، وهي دعوة للتخطيط العلمي والعملي المتميز، والمرتكز على وقائع الماضي ومعطيات الحاضر وإرهاصات وتحديات ومتغيرات ومحددات وبشائر المستقبل، كعنصر أصيل يساعد المخططين وصناع القرار الإستراتيجي.
وعلم المستقبل يمثل أحد العلوم المهمة في دول العالم المتقدم، وتجند له كل الإمكانات من المتخصصين من مختلف العلوم، وتنشأ من أجله الكليات ومراكز البحوث والدراسات والهيئات العلمية، وتدعم الكراسي البحثية في هذا المجال وبقوة.
والسؤال الملحّ كيف يكون استشراف المستقبل؟
وهل تصلح الأماني والأحلام والمنظور الفردي غير المؤسس لاستشراف المستقبل؟
ولكن علم المستقبل يمثل رؤية شاملة للمستقبل تضع في حسابها حقائق العلوم ومعطيات التاريخ والتجارب السابقة، وتستقرئ الحاضر وتتجه نحو المستقبل. وعلينا أن نعرف ماذا يُعنى بهذا العلم وما هو تعريفه ونمطه ومفهومه ونشأته وإطاره وأهميته وأساليبه وأغراضه وأهدافه ومبادئه ومسلّماته وعناصره وخصائصه ومناهجه ومنهجياته، وإيجابياته ومعوقاته ومحدداته ومهدداته، وعلاقته الحميمة بعلم الإستراتيجية لكي نستطيع أن ندرك أهميته.
وفي هذه الوقفة التوعوية المختصرة سنقدم طرحاً مختصراً ومقتضباً للمرتكزات الأساسية لهذا العلم وبعض أطنابه.
يؤكد الباحثون أن الإنسان قادر على استباق الزمن مع النظرة التأملية وهما اللذان يشكلان سمة الإنسان الطموحة، ومن ثم فإن المستقبل هو جزء لا يتجزأ من مقومات الحالة الإنسانية؛ حيث يبقى الإنسان متفرداً في قدرته على التصرف في الحاضر على أساس الخبرة الماضية المدروسة، وذلك ضمن شروط النتائج المستقبلية، والإنسان بافتراضه المستقبل يتعايش مع حاضره، وبذلك يتداخل الماضي والحاضر ويتداخلان في توقع الأعمال المستقبلية والتنبؤ بها .
كما تتجلى أهمية المستقبل في التنوع الكبير للمؤسسات والأدوار الاجتماعية المساندة للتنبؤ بالأحداث المستقبلية في سياق فكرة المستقبل بمعناها الجديد المستخدم، وقد أكد العديد من المفكرين على هذه الأهمية: قال باسكال : “إننا لا نفكر في الحاضر، فالحاضر ليس هدفنا فقط، بل الماضي والحاضر هما وسيلتنا، أما هدفنا الأوحد فهو المستقبل، لذا نحن لا نعيش فقط، بل نترقب الحياة“. أجاب “وارد كورنيشن : “إذا كان هناك شيء هام فهو المستقبل، فالماضي قد مضى، والحاضر لحظة عابرة، وكل ما نفكر فيه أو نفعله في الحاضر يمكن أن يؤثر على المستقبل“. : وسُئل اينشتاين لماذا اهتمامك بالمستقبل ؟ أجاب ” ببساطة لأنني ذاهب إلى هناك “. وتشارلز كيترنج يقول: “اهتمامي منصب على المستقبل لأنني سأمضى بقية حياتي فيه “. وأصبحت هذه المقولة شعار المستقبليين“.
هكذا بدأ الاهتمام بالزمن والمستقبل منذ بداية الفكر الإنساني منذ البدايات الأولى للتطلع للكون ومحاولة معرفة أسراره؛ حيث لم يتوقف عن البحث في مدلول المستقبل في صور وزوايا متعددة.
نشأة وتطور الدراسات المستقبلية مرّا بثلاث مراحل:
الأولـى:
المفهوم القديــم للزمن:
نظر الإنسان للمستقبل على أنه متداخل مع الماضي والحاضر، وأنه نوع من القدر.
والثانية:
المفهوم الحديث للزمن:
تم فيه طرح مفهوم التقدم كأحد مقومات الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي الحديث، وبذلك لعبت فكره التقدم دوراً مهماً في نشوء وتطور الدراسات المستقبلية.
والثالثة:
تختص بالمفهوم المعاصر:
بدأ الإنسان في النظر للمستقبل على أنه ذلك البعد الزمني الذي يمكن التحكم في صورته، ووجود تنوع في مفاهيم الزمن عبر المجتمعات المختلفة، فأهمية الوقت، والدقة في الحياة اليومية يتنوعان من مجتمع لآخر على سبيل المثال وأحياناً داخل المجتمع الواحد. وتتنوع الرؤى المستقبلية عبر الثقافات، وداخل كل ثقافة هناك مقولة شعبية : ” إن العرب يتنبأون بالماضي، ويتذكرون المستقبل ” .
مهام الدراسات المستقبلية:
لا توجد معرفة يقينية بالمستقبل، وهذا هو التناقض الذي يواجه الدراسات المستقبلية، فبالرغم من أن الدراسات المستقبلية تفترض أن المعرفة الوحيدة المفيدة للإنسان (معرفة المرء ليتبين طريقه في هذا العالم) هي معرفته بالمستقبل إلا أنه لا توجد معرفة يقينية بالمستقبل فعلى الرغم من وجود حقائق قديمة وخيارات حاضرة وإمكانات مستقبلية فإنه لا يوجد احتمالات ماضية ولا حقائق مستقبلية، ولا يمكن رؤية المستقبل ولا يمكن إثباته وإنما يمكن افتراضه عبر المعرفة التنبؤية أي الإيمان المبرر بفرض ما.
وذكر بعض المستقبليين عن أهمية الدراسات المستقبلية الآتي:
– خلق وعي قوي بالمستقبل وتنمية رأي عام مهتم بالمستقبل وتحفيزه لمواجهة تحدياته ورفع مستوى الوعي بالقضايا والتحديات المستقبلية.
– المستقبل هو ناتج قرارات من صنع الماضي والحاضر ولكن باستخدام الدراسات المستقبلية يصبح الحاضر ناتجاً عن قرارات تتعلق بالمستقبل.
– استباق الأزمات ومنع حدوثها؛ حيث إن تمييز الأزمات المحتملة مستقبلاً حتى يمكن تفاديها هو إحدى أهم وظائف الدراسات المستقبلية فالاستكشاف المنهجي لاحتمالات المستقبل يمكن أن يعمل كجهاز إنذار مبكر.
– المساعدة في عملية صنع القرار وتقرير الأولويات وطرق تحقيقها، لكونها تستند إلى رؤية مستقبلية واضحة، وصادرة في التوقيت المناسب. الحالي. حرية الاختيار ودرجته، ولكننا بدراسة احتمالات المستقبل نبدأ ندرك الاحتمالات الجديدة المفتوحة أمامنا فلا نبقى سجناء وضعنا الحالي .
– تهيئة الناس للعيش في عالم متغير وفهمه وتمكينهم من صنع مستقبلهم بإرادتهم (إن أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي صنعه)
– الإسهام في تقدم العلم والفكر الإنساني فبحوث المستقبل تحقق توليد المعرفة ونشرها وتوظيفها، وتعزيز الإبداع والابتكار لمواجهة مشكلات وأزمات المستقبل وكذلك المساعدة في حث الجميع على التعلم.
– تعزيز ثقافة العمل (نعمل ثم نرى) بدلاً من ثقافة الركود ( ننتظر لنرى)
– حل التناقضات بين الحاجات الملحة قصيرة الأجل، والحاجات المهمة طويلة الأجل.
إذا كانت تلك الأهمية العامة للدراسات المستقبلية (للأفراد والمجتمعات والدول)
– اختصار الفترة الزمنية للتنمية.
– المساعدة على التكيف مع ضغوط التغيير السريع لمواجهة المتغيرات والاستعداد لتوجيهها عندما تكون هناك تغيرات محلية أو إقليمية أو عالمية.
– زيادة القدرة على توقع المشكلات والتصرف لمنع ظهورها (أي التأثير فيها) وليس فقط القدرة على حل المشكلات (وإن كانت أصلا ضعيفة)
– تمكين دول ومجتمعات وشعوب العالم النامي من القدرة على الإمساك بزمام مستقبلها، ذلك أن مستقبل الدول النامية ما زال يواجه محاولات الهيمنة، ومن ثم فإن عليها استشراف المستقبل وتقديم الحلول المناسبة المسبقة والاقتراحات لضمان سيرها إلى المستقبل وليس إلى التاريخ كما يراد لها.
ومن الضرورة بمكان أن نقوم بإسقاط هذه الدراسات المستقبلية على واقعنا السعودي، وهو إسقاط المحبة والنماء والانتماء، مع جل التقدير والإجلال لكل الجهود التي بُذلت وتبذل، يحتم علينا الوقوف بحيادية وعدم التحيز والبعد عن إيجاد المبرر لأية أزمة أو كارثة أو خلل وقع في بنيتنا التحتية الأساسية والتخصصية، فقدنا فيها أرواحا بريئة ومدخرات ومقدرات نحن في أمس الحاجة إليها، كل ذلك يعطي مدلولاً قوياً على غياب الدراسات المستقبلية برؤيتها واختياراتها وبدائلها واحتمالاتها وتنبؤاتها ومدياتها القريبة والمتوسطة والبعيدة، وتوافقها مع الإمكانات المتاحة.
العلاج الحقيقي هو أن نمارس هذا العلم وتوأمه علم الإستراتيجية في كليات متخصصة، ونؤسس مراكز للبحوث والدراسات الإستراتيجية والمستقبلية. وأن نفرض توظيف هذا العلم وتطبيقاته ممزوجاً بإرادة وطنية صادقة، لكونه أفضل علاج مضاد للمشاريع اللحظية والآنية، وأنجع استرشاد لمشاريع مستقبلية لكافة أوجه الحياة، ولتدوم لعقود زمنية قادمة تخدم أجيالا نحو مستقبل واعد بمشيئة الله تعالى
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين