دور الدراسات المستقبلية في تقدم المجتمع
تمر الحياة المعاصرة الآن بوتيرة متسارعة، وفريدة من نوعها، تختلف عن المسيرة التاريخية للتطور والتقدم في حياة الإنسانية، ونلاحظ الآن التسارع الواضح في عجلة الزمن بسبب الكم الهائل من الاختراعات، والاكتشافات العلمية في شتى المجالات، ما يدل على الوعي المتطور، الذي يعيشه الإنسان المعاصر، وبالتأكيد فإن الجهود الإنسانية الماضية هي صاحبة البصمة الدافعة لما نتمتع به اليوم من رقي، وحضارة.
ولكن يجب الإشارة إلى مفهوم جديد، ومعاصر، له جذوره التاريخية منذ وجود البشرية، ألا وهو الدراسات المستقبلية. كان الاهتمام بالمستقبل من أهم ما يشغل الإنسان منذ القدم، حيث تجلّت صور هذا الاهتمام بالكهانة، وربط أحداث المستقبل بالنجوم، والطالع، والسحر، والشعوذة، وتطورت هذه الرؤية الاستشرافية مع تكوُّن الحضارات الإنسانية، وكان لها أثر واضح على تلك الحضارات، ومثال ذلك اهتمام الإغريق بحفر، ونقش الصخور من أجل الأجيال القادمة، وأيضاً بناء سور الصين المعروف، وما تزامن معه من تدريب عسكري، وتخطيط لتحقيق القوة الأمنية للصين، وقد كان للحضارة الإسلامية شرف، لم يسبقها إليه أحد، في استشراف المستقبل، حين كان لهذا العلم خطوات عملية قائمة على العلم، وليس التنجيم، والكهانة، تجلّت في صور عديدة مثل: هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وما كان ذلك إلا لنظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الثاقبة لبداية تأسيس الدولة الإسلامية.
وقد اختلف منهج الاستشراف مع مرور الزمن، وتغيُّر المكان، فتطور، وأصبح في الوقت المعاصر من أهم العلوم، لكونه إحدى الأساسيات، التي تضمن تقدم العلوم، وتطورها.
إن التطورات المشاهدة في العقود الأخيرة للسيطرة على المستقبل، وصناعته، كوّنت ما يعرف الآن بالدراسات المستقبلية، وهي تخصص علمي جديد، يختص بصقل البيانات، وتحسين العمليات، وعلى أساسها تُتَّخذ القرارات، وتوضع السياسات في مختلف مجالات السلوك الإنساني مثل: الأعمال التجارية، والحكومية، والتعليمية. كل ذلك الهدف منه مساعدة متّخذي القرارات، وصانعي السياسات، على أن يختاروا بحكمة المناهج البديلة المتاحة للفعل، لضمان أفضل النتائج.
يؤكد ذلك التاريخ الأوروبي الحديث في العقود الماضية حينما خطت أوروبا في القرن التاسع عشر خطوات عميقة المعنى، والمغزى، في مجال التصنيع، وأصبحت، دون منازع، سيدة العالم، ومركز القوة فيه، ففي تلك الفترة سادت فكرة حتمية التقدم، وتجلّت في التصنيع، والتحضّر، والوحدة القومية.
وفي بداية القرن العشرين الميلادي، بدأت إرهاصات التنظير العلمي للمستقبل، ودور العلم، والعلماء في تقدم الدول، وصناعة مستقبلها، وأن يؤخذ المستقبل بعين الاعتبار، وبشكل رسمي عند اتخاذ القرارات الإنسانية من خلال إنشاء عديدٍ من مراكز الدراسات المسقبلية في الدول المتقدمة مثل: إنشاء مؤسسة «راند» الأمريكية في عام 1947م، لدراسة الأنظمة الحربية، وتطورها في مجال الطيران.
وهذا يشير إلى ضرورة إنشاء المراكز الاستشرافية على مستوى الدول لتشمل القطاعات السياسية، والاقتصادية، والنفسية، والصحية، والبيئية، والتعليمية، وغيرها من القطاعات المختلفة، التي تساهم بدرجة قوية في صناعة دولة رائدة قوية متقدمة في كافة الجوانب، ولا تدع مجالاً لاختراقها، أو النيل منها.