إن الدراسات الاستشرافية تتيح للمجتمعات إضفاء أبعاد مستقبلية على منهجية التفكير والتخطيط
واتخاذ القرارات الرشيدة نحو مستقبل أفضل
دور الدراسات الاستشرافية في صناعة المستقبل مع بداية كل عام ميلادي يخرج المنجمون على الناس من خلال الإعلام والذين يتسمى البعض منهم تلبيسًا بالفلكيين يخرصون بما يزعمونه أهم أحداث العام الجديد كعامنا الميلادي هذا 2017 م ، فمن متنبئ بنشوب حرب هنا أو هناك، أو وفاة الزعيم الفلاني، أو بتحسن أو تدهور في الاقتصاد المحلي أو العالمي … الخ، وهذا الضرب من النبوءات قولٌ بعلم الغيب، وهو لذلك انحراف عقدي يتناقض مع صريح القرآن الكريم (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ)، ورد بشأنه الوعيد الشديد ليس في حق “الفلكيين” والكهان والعرّافين فحسب، بل وحتى لمن أصغى لهم السمع أو سعى وراء آرائهم وترهاتهم، ففي الحديث الشريف: (من أتى عرّافًا فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين ليلة)، رواه مسلم، وفي الحديث الآخر: (من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدّقه فقد كفر بما أنزل على محمد)، ورحم الله لبيدًا بن ربيعة القائل: لعمرك ما تدري الضوارب بالحصا ، ولا زاجرات الطير ما الله صانع
وثمة ضرب آخر من التنبؤات (التوقعات) مبني على دراسات استشراف المستقبل، من خلال رصد عوامل متغيرات الأوضاع السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية لبلد ما، أو لإقليم ما، تصدر عن دور دراسات استشراف المستقبل العالمية بشكل دوري، لا سيما مع بداية السنة الميلادية، مبنية على منهجية علمية رصينة معروفة لدى المتخصصين، تعتمد على استقراء الظاهرة المعنية في الماضي، وملاحظة متغيراتها الحاضرة، والربط بينهما وبين أنماط أحداث المستقبل، وهذا النوع من دراسات التنبؤ بالمستقبل هامٌ جدًا قامت له مؤسسات متخصصة في العالم الغربي، خصوصًا في الولايات المتحدة، ومنذ فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.. وقد فتحت بعض الجامعات العالمية المرموقة تخصصات الدراسات المستقبلية نظرًا لما تُشكّله هذه المعارف من قدرة على معرفة أكبر قدر ممكن من الاحتمالات الممكنة، والتوصل لأفضل السبل لمواجهتها أو الاستفادة منها، وتساعد قيادات تلك الدول على اتخاذ القرارات الإستراتيجية لصناعة المستقبل وتشكيله بعد إرادة الله على مرادها، ويعوز عالمنا العربي والإسلامي الكثير الكثير في هذا المجال العلمي، إذ ينفق العالم المتقدم بمؤسساته العسكرية وشركاته متعددة الجنسيات 97% من إجمالي الإنفاق العالمي على الدراسات المستقبلية، بينما ينفق عالمنا النامي نسبة 3% المتبقية على دراسات استشراف المستقبل.
ومن البدهي القول إن الدراسات الاستشرافية تتيح للمجتمعات إضفاء أبعادًا مستقبلية على منهجية التفكير والتخطيط، واتخاذ القرارات الرشيدة نحو مستقبل أفضل، وإذا أردنا لهذا المستقبل أن يكون أقرب ما يكون من تحقيق مصالحنا طبقًا لرؤانا الإستراتيجية، فلا بد لنا أن نصنع ذلك المستقبل بأنفسنا بعد عون الله وتوفيقه، بدلًا من أن ننتظر -في سلبية- مستقبلًا يصنعه أقوام آخرون أيًا كانت صورته، أو بدلًا من أن نقنع أنفسنا بالتأقلم أو التكيف مع ما قد يقع من أحداث مستقبلية، وللدراسات المستقبلية عدد من الفوائد المتوخاة، منها:
* القدرة على اكتشاف المشاكل قبل استفحال أمرها، والاستعداد لمواجهتها أو التقليص من مخاطرها لأدنى حد ممكن، فكأنها نوع من الإنذار المبكر للاستعداد المسبق للطوارئ والتدرب على مواجهتها، ويمكن إسقاط هذا المفهوم على الأحداث الجسام التي تمور بها منطقتنا العربية منذ 3 سنوات.
* كما أن الدراسات المستقبلية في نفس الوقت تمكّننا من التعرُّف على نقاط القوة الكامنة في المجتمعات، إضافة لنقاط الضعف، مما يُمكِّننا من تحقيق ما نصبو إليه من تنمية مستدامة، وتوليد الثقة بالنفس وزيادة مكامن القوة وتعبية الطاقات لمواجهة تحديات المستقبل بفضل الله.
* كما تمكن دراسات المستقبل من بلورة السيناريوهات المحتملة، وترجيح أيها أقرب للواقعية، وتظهر زمن وقوعه التقريبي ضمن مساحة خطأ صغيرة تمهيدًا لعملية المفاضلة بين تلك السيناريوهات، الأمر الذي يتيح قاعدة معرفية قويّة لصناع القرار في أي بلد من البلدان، يمكن من خلالها أن يتم التخطيط استراتيجيًا للمستقبل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعلمي لتلك البلدان.
من المهم أن نشير هنا إلى أن دراسات استشراف المستقبل شيء غير التخطيط الاستراتيجي، إذ تعنى الأولى بالتعرف على احتمالات ما سوف يكون في المستقبل، أي أن نتائجها متعددة الاحتمالات مع محاولة ترجيح أي الاحتمالات أكبر واقعية دون أن تكون معنية بالوصول لنتيجة محددة، بينما يعنى التخطيط الإستراتيجي بتحديد هدف معين مسبقًا ومحاولة الوصول إليه، وبالتالي فإن الدراسات المستقبلية تساعد بشكل كبير في توجيه التخطيط الاستراتيجي. من هنا يتضح أهمية إنشاء مؤسسات ودور استشارية للدراسات المستقبلية في بلادنا العربية والإسلامية وإدخالها ضمن الدراسات الجامعية والعليا؛ لكي نستطيع أن نواجه تحديات المستقبل مسلحين بنفس الأدوات التي تلجأ إليها دول العالم المتقدم.